عندما يتحدث الدم تسكت الأصوات، وتختنق كل الأكاذيب. للدم لغة صادمة بقدر ما هي حقيقية.. والأهم أنه لا يمكن التشكيك فيها. كل من يتحدث في اتجاه معاكس للدم، لا بد أن يفتضح أمره.. فلغة الدم لا تقبل المساومة.. إنها اللغة الوحيدة في العالم التي تمتلك الحق.. كل الحق،.. في أن تدين من ليس معها بالمطلق. كل من يستغل لغة الدم ليحقق انتصارات وهمية على حساب خصومه السياسيين، ستدينه لغة الدم وستلعنه إلى أبد الآبدين. الدم لا يمكن تبريره، لأن منطقه يتعالى على حسابات الربح والخسارة ولا يعترف بمنطق موازين القوى. الأقوى ليس مبرراً له أن ينتهك حرمة الدم لأن الضعيف قام باستفزازه.. القوة والضعف هنا لا علاقة لهما بالقضية.. نحن نتحدث هنا عن لغة لا لغة لها.. إما أن تكون معها وإما أن تكون ضدها.. إما أن تكون مع الدم المسفوك أو مع من سفك الدم.. الوقوف في المنتصف غير مقبول.. والإمساك بالعصا من المنتصف لن يفيد.. فالدم لا يمكن أن يشرعن منطق العِصي. كل من يحاول تحليل ما يحدث في غزة الآن، إنما يفعل ذلك لأنه لا يفهم لغة الدم ولا يجيد التحدث بها ولا يستوعب مفرداتها. لذلك فقط، تجد أن هؤلاء يتخندقون مع الجاني ضد الضحية.. مع البارود ضد الدم..! ومن يقف ضد الدم لن يظفر إلا بلعنات الحاضر والتاريخ معا. كتب التاريخ لن تغفر.. إنها فضاحة.. وكيف لا تكون كذلك، وكتاب التاريخ نفسه قد كتب بمداد من دم..؟ فالتاريخ لا يقيم خارج الدم إلا قليلاً.. ولولا الدم لانتفت الحاجة إلى كتابة التاريخ من الأساس. في فلسطين الدم لم يتحدث إلا بعد وقوع الاحتلال.. وفي غزة لم يكتف الدم بالحديث بل تجاوزه إلى الصراخ منذ أن فرض أعداء الدم، حصارهم المجرم تحت أعين العالم الصامت. الدم الذي تيبس في عروق المحاصرين، ظل يصرخ في البشر ويستصرخهم.. والصمت كان ولا يزال جريمة.. ربما تفوق جريمة المشاركة في سفكه. أن يوضع شعب بالكامل وراء القضبان، وداخل مساحة هي الأضيق قياساً إلى عدد السكان، فذلك يعني أن الغرض هو تجميد الدم في العروق.. فهل نلوم الدم لو اختار الخروج من حالة التجمد، كي يعود إلى حالة السيلان مرة أخرى؟! القضية تبدو بسيطة للغاية، وكل قضية يكون الدم طرفاً فيها، لا بد أن تكون بسيطة.. هناك دم يتحدث وأحياناً يصرخ، والصمم في هذه الحالة ليس عاهة أو مرضاً.. الصمم هنا طرف آخر في القضية، وخصم ثان للدم.. فما بالك بمن يتخذ موقفاً معادياً للغة الدم لحساب لغات عديدة: الانتهازية، الخيانة، التآمر، الوحشية، الانسلاخ من الإنسانية.. والكفر بالدم؟! لقد نبت لدم أهالي غزة -أطفالهم بالتحديد- أصابع قادرة على الإشارة وتحديد هوية الجاني.. التهمة هي القتل، وقانون العقوبات الذي تنص عليه لغة الدم يستوجب إصدار صك خزي وعار لكل من تورّط في الدم.. إما بالسفك، وإما بالتبرير، وإما بالصمت. وكل جرم من هؤلاء لا يقل شناعة أو بشاعة عن الجرائم الأخرى. من الضروري أن نتذكر أن الدم يمتلك لغة موحدة لا تعترف بالفواصل، ولا بالاختلافات القومية أو الدينية أو الأيديولوجية.. لغة الدم لغة إنسانية جامعة.. على قدر فهمك لها تنال النصيب الذي تستحقه من الإنسانية.. وعلى قدر إنكارك لها تنال نصيبك من العار والذل حتى ولو امتلكت نصف العالم وصفق لك ثلاثة أرباعه. يقول الطبيب النرويجي الذي تطوع لمهمات الإنقاذ الطبي، مادي غيلبيرت، في رسالة وجهها من غزة: (لا أحد يملك قلباً وقوة يمكنه إمضاء ليلة في مستشفى الشفاء دون أن يعزم على إنهاء المذبحة بحق الشعب الفلسطيني). ثم ينهي رسالته بعبارات وجهها فقط وبشكل حصري، لكل من يفهم لغة الدم: (أنهار الدماء ستستمر بالجريان في الليلة المقبلة. أستطيع سماعهم يدوزنون آلات الموت. أرجوكم، افعلوا ما بوسعكم. ما يحدث لا يمكن أن يستمر). كل من لا يملك دماً لا يمكنه أن يفهم لغة الدم. لا تستعجبوا لأن ما يجري في عروق بعضهم ليس دماً.. فليس كل ما يضخه القلب دماً، وليس كل ما يقع في الجهة اليسرى من الصدر قلباً..! هناك في صدرر بعضهم قبور تضخ سائلاً له نكهة القتل! قابيل لم يمت بعد.