ترددت طويلاً قبل أن أبعث إليك بهذه الرسالة. فأنت لربما لن تجد وقتاً لقراءتها وقد لا تلتفت إليها أصلاً. لقد تعودت ألا تقرأ الآخرين، واستمرأت أن تصغي لصوتك، ولكن، وإن لم تصلك الرسالة، فقد تصل إلى من تعودوا على ترديد أفكارك ولوكها، كما لو أنها حقائق ثابتة. ولتعذر قسوتي عليك وعلى أوهامك قليلاً، فلم يعد الظرف يسمح بالمراوغة. وسأبدأ من حيث يجب أن أبدأ. فأنت ترى أن الانسان هويته، وتربط هذه الهوية بالدين مرة وبالعرق مرة أخرى وباللغة مرة ثالثة، ولا أدري إن كانت الهوية ديناً أو لغة أو عرقاً، ولكنك في كل ذلك لا تفهمها إلا كشيء ثابت ومنته ومغلق، بل وكمنظومة مقدسة لا يتوجب المساس بها. ومع ذلك، فلم يكن الدين يوماً ثابتاً، وهو يتحرك ويتغير في اتجاهات مختلفة، أما اللغة فهي بنت أخطائها وهبة احتكاكها بالعالم وباللغات الأخرى، حتى أنه يمكننا القول إن تاريخ اللغة هو تاريخ أخطائها، وأما العرق، فإنه لم يكن يوماً صافياً وواحداً، ففي عروقنا تجري دماء أمم وشعوب مختلفة. والواقع أن المشكلة تكمن في فهمك للهوية. فهل هي بالضرورة مغلقة ومنتهية أم هي وجودي في هذا العالم، وهل يحتاج الانسان فعلاً إلى هوية، أم إلى أكثر من هوية؟ وأنت تعرف أن فهمك المرضي للهوية لا ينتشر إلا في سياق التخلف، وأنه يبدأ فكرة ويتحول إلى عقيدة، لينتهي إلى مذبحة. فأنت مشارك للجلاد العربي في قمعه الشعوب ومشترك معه في الجريمة وأنت من بايعه على الطاعة العمياء، فالهوية العمياء طاعة عمياء. وأراك حين تفكر في الدين، تريده ديناً وسيفاً مصلتاً على الرقاب في آن، وفي أحيان أخرى أراك تأنف منه، وتحقد عليه وتلصق به كل تهم التخلف والظلم، كما لو أن الدين رجل أو حاكم أو نظام، ولأنك لم تتعلم تبادل الأفكار ومقارعة الحجة بالحجة، فأنت واحد في الحقد والأنانية والانغلاق، كنت من هذا الطيف أو ذاك. وأنت حين تفكر في الغرب، تراه مرة سبب مصائب العالم، على رغم أنك تأكل من طعامه وتستقل سياراته وتسكن بيوته. ومرة تنظر إليه نظرة إعجاب مطلق وتتماهى معه من دون أن تتماهى مع روحه النقدية ومن دون أن تشك لأنك لا تفكر، ولأنك درجت على الخلط بين التفكير والتغريب، التفكير والتكفير. ثم إنك خرجت علينا يوماً بأسطورة التراث، وأنه لا تجديد ولا تقدم إلا به، وأن علينا أن نعيد قراءته، لكن ما يفيدنا إحياء جثة هامدة، انفصلت عنا وانفصلنا عنها ولم يعد لها ما تقوله للحاضر؟ لماذا تقلق راحة الأموات؟ لماذا تصرّ على العبث بأشلائهم؟ وحين تعوزك الحيلة ويخونك المنطق، تستسلم لنظريات المؤامرة التي يرددها رواد المقاهي، وكل من يفضل الكسل على التفكير، فتخرج علينا بأفكار مضحكة ومثيرة للسخرية، من أن اليهود سرقوا ابن رشد وسمّوا شارعاً في إسرائيل باسمه، أو من أن كانط فيلسوف يهودي أو أن الفلسفة الغربية، التي أعطت البشرية الحرية والإنسان والنقد، مجرد مشروع استعماري وأفكار مرتبطة بسياقها لا ضرورة للأخد بها، وتتناسى أن أفكارك هي من صنعت عقلية استمرأت العبودية والذل واستسلمت للكسل فسمّته فكراً وللظلم فسمّته قدراً. ولعل مشكلتك تكمن في شيء واحد، وهو أنك لم تتعلم يوماً الإصغاء الى نبض الحياة من حولك، وتسمية الأشياء بمسمياتها، وأدمنت المراوغة وخلطت بين الثقافة والتجارة. ولو تحلّيت بقليل من التواضع، لعرفت أننا تحولنا إلى مهزلة تاريخية، وأننا نحارب بعضنا بعضاً وندمر أوطاننا ونعيث فيها فساداً ونسرق مستقبل أجيالنا القادمة. إن تكبرك هو الذي منعك من أن تتعلم أن الفكر قضية وأن لا فكر من دون انخراط في زمن العالم ومن دون استعداد للتعلم، من دون قليل من التواضع، وأن دم الطفل الذي يسفكه الجلاد أكثر قداسة من كل أرض ومن كل فكر ومن كل تراث. وحين يثور شعبك ضد الظلم، تسمي ثورته «ناصرية» أو «إسلامية»، لأنك تفضل الوهم على الألم، والحنين المرضي على شجاعة القطيعة، ولأنك مصمم على الإدلاء برأيك على رغم أن لا رأي لك وأنه كان الأجدى بك أن تجنح إلى الصمت، إن لم تكن قادراً على الاعتراف بأخطائك. وحتى إذا اخترت الصمت، وتعلّلت بأن المؤرخ ليس صحافياً وأنه يحتاج الى وقت ليصدر حكمه، فإنك في علمويتك الباردة لا تخون إلا التاريخ نفسه. فهل كان كانط سطحياً لما خرج يعدو في شوارع كونيغسبرغ حين وصلها إعلان حقوق الإنسان من باريس الثورة؟ وهل كان هيغل واهماً لما رفع قبعته تحية لروح العالم؟ أراك تردد أن لا ديموقراطية مع الأمية، كما لو أن الديموقراطية خُلقت للأسياد فقط، وكما لو أنه يمكننا محاربة الأمية من دون ديموقراطية، وكما لو أن الناس الذين خرجوا يهتفون بسقوط الطاغوت، لا يستحقون الحرية. أسمع اللحظة كلمات غوته، كما لو أنه كتبها في حقك، كما لو أنه كتبها لنا: «مت وكن» أو مت لنكون! * كاتب مغربي