لا يمكننا أن نقفز مبتعدين عن حقيقة أن صورة الاتصال الثقافي بين المجتمعات العربية، مشحونة بمنطق الإقليم المكاني، وقوة تمكنه من تسخير الذات العربية لخدمة أغراضه، التي تعنى بالتجزئة، وبعث روح الانقسام، وما تلعبه السياسة في تاريخنا المعاصر، هو ما تلعبه الثقافة العربية اليوم، لكن من زاوية باهتة، حيث تجري في الواقع دما فاسدا، فحركة الاتصال الثقافي بين أفراد مجتمعاتنا، مسكونة بطاقة مريعة على التفارق، بعيدا عن السمات الاختلافية لثقافة كل مجتمع على حدة، ومأخوذة ببهوت الجغرافيا. وإذا أردنا أن نقترب من حقيقة الواقع هذا، وما يخلقه من أزمات على المستوى الاتصالي في جانبه الثقافي، سنجد أنه ليس مطلوبا تحسين سبل تواصلنا فيما بيننا من خلال إنشاء وحدة عربية متكاملة الأضلاع، وليس منوطا بأقدارنا الهزيلة أن نمضي إلى ثورة استثنائية في الوعي للتخلص من رطانة القسمة على اثنين وعشرين إقليما مكانيا، مشتركاتهم واضحة أكانت في اللغة أم في العقائد أم في الجغرافيا أم في الإرث الاتصالي الحضاري، لأن ذلك في راهن الحال العربية سيكون ضربا من ضروب التوهم والخيال، تحت وطأة غياب وعي الأكثرية منا بقيمة الاتصال وقدرته على تنمية مشتركاتنا، وتوفير الحماية الوجدانية لثقافتنا العربية، وإنتاج لغة حوار متقدمة في تفاصيل فعلها، وفهمها للواقع، والتشكل فيه، من أجل إنهاض إنسانه. ولكن المطلوب توسيع قيمة الالتقاء على المشتركات، وتعزيز الأطر الجامعة لثقافاتنا واحترام اختلافاتنا التي تصوغ تشاركنا، أكانت هذه الاختلافات عقائدية أم اثنية أم لغوية أم قيمية أم جغرافية، وتطوير قدرتنا على التفاهم، باستخدام الوسائل التي يمنحنا إياها التقدم التكنولوجي، والاستفادة من المعطيات التي صاغت في أزمنة ماضية إمكانيات تشاركنا ووحدتنا الحضارية، ومنح الفرصة لمثقفينا ومفكرينا كي ينتجوا أعمالا بحثية وإبداعية، ذات قيم ثقافية إنسانية عالية، تحض على التشارك والتواصل والتفاهم والحوار، وبالذات الحوار بين مجتمعاتنا وأفرادنا. إن كثيرين من أبناء مجتمعاتنا العربية لا يستطيعون التواصل فيما بينهم، للفوارق الهائلة التي صاغتها عزلة المكان والإقليم، في استنادهما إلى الجغرافيا لفهم العلائق القائمة بيننا، وهو ما وضع أقاليمنا جميعها تحت تصرف القسمة أو الإزاحة، إذ لا يمكن للجغرافيا وحدها أن تكون مرجعا يوحد بين البشر، وإلا لما خلقت الحدود بين البلدان، كما أن هناك معوقات في طريق أي نوع من أنواع الوحدة، تستدرج على أيدي متخصصين في لعبة التقسيم المتوارثة تاريخيا من أنظمة القمع السياسية التي درست في جامعتي سايكس بيكو وسان ريمو، فنون القسمة الضيزى للجغرافيا العربية. وحين تصبح الإشارات والعلامات القيمية والثقافية في هذا المجتمع أو ذاك غريبة عن بعضها، بحيث تقطع أي عملية للتفاهم أو الاتصال، فإن فحوى ذلك قادمة من الفجوة الكبيرة التي خلقتها معامل الكراهية وحروب السياسيين وضغائن الحدود المهندسة بحقد واضح بين أقاليم جناحي النسر الحزين، في هذا الوطن الممتد من الماء إلى الماء، كما كانت تقول أغاني الوحدة العربية الماضية، وذات الخزين النوستالجي الممجوج في تعاطيه مع مفهوم الوحدة على الطريقة البسماركية. وقبل أن يرفع ذوو الانتماءات الثقافية المستغربة والمنهمكة ببناء جسور تواصل مع الغرب، وثقافاته المتنوعة والحرة والإنسانية على حد تعبيراتهم المسخرة لأغراض آنية، فإن الحاجة لأن تمتد جسور التواصل فيما بين أفراد المجتمعات العربية في الإقليم الواحد وفي الأقاليم المتعددة، هي أكثر إلحاحا لصياغة حالة من التقدم الإنساني، وتجاوز عقدة التخلف والتراجع التي بتنا نتحسس ضغينتها وهي تفتت وجودنا، وتسوقنا إلى عدم ممض، يمزق مشاعرنا الإنسانية جهة أي هدف نبيل، يسعى للارتقاء بإنسانيتنا وتطويرها. إن إنتاج لغة للحوار في بلداننا بين الغرب والعرب، تلك التي يتمنطق بها صانعو مراكز البحث الغربية، لم يسبقها إنتاج لغة للتواصل فيما بين شعوبنا، التي لم تعد تتألم لما يمس بعضها بعضا من أحداث ومصائب وانكسارات، وإلا فما المعنى من صمت كافة الأقاليم العربية على ما يتعرض له المهاجرون المغاربة في أوروبا مثلا من ابتزاز وانتهاك ؟ وما هي ردود فعلنا جهة الأحداث الأخيرة في فرنسا وأوروبا واستراليا، والتي كانت موجهة ضد الأقليات العربية والمسلمة غالبا ؟ وإلى أي مدى أصبح الإحساس بما يواجهه الشعبان العراقي والفلسطيني مثيرا للاهتمام لدى شعوبنا ؟ وكيف نقيس درجة حرارة الانفعال الوجداني حين يتم قتل شخصية اعتبارية في دولة عربية كلبنان أو مصر ؟ وغيرها الكثير من الأحداث التي بدت فيها الأمة العربية محتشدة بالصمت الغبي، الذي يبدو أكثريتنا فيه، غير واثقين مما إذا كان تفاعلهم مع أبناء ثقافاتهم المتنوعة والمشتركة في الجذور، هو تفاعل حيوي، يصوغ لغة للتشارك والحوار بين أبناء الأمة، أو يزيد من قسمتها إلى أكثر من اثنين وعشرين إقليما. كما يبدو الغياب الصارخ لأدوار المثقفين والمفكرين في بناء روح مشتركة، ودحض قيم الانقسام وعدم التفاهم والحوار، سواء كان ذلك متقصدا أو ممنوحا الإذن من بعض السياسات الضالة للقابضين على أمر أقاليمنا، مفضيا إلى خلق عزلة مريعة بين بلداننا، وصانعا لفرقة يصعب التكهن بمدى قوة أثرها بيننا، مع أننا نعيش فصولا درامية منها في أيامنا هذه. لقد تعرض الوطن العربي منذ نهايات الاستعمارات الحديثة، للكثير من العوامل التي صاغت وجدان مجتمعاته ثقافيا، ورغم قوة الأثر الذي صنعه الاستعمار في إبدال وإزاحة القيم الثقافية المشتركة بين أبناء المجتمعات العربية، ورغم نجاحه في فرض صورته كبديل حديث ومعاصر لإنتاج وعي جديد، يمهد له باختراقنا بعيد رحيله، فإن الروح المشتركة بيننا بقيت قوية، لأنها وجدت من يؤكد عليها ويعيد إنتاجها للدفاع عن وجود هذه الأمة، من مثقفين متنورين ومنهمكين في توطيد الأواصر لدى مجتمعاتنا، غير أن ذلك تراجع منذ بدأت أفكار الوحدة العربية تتصدع، ومنذ أصبح من ينادي بها، يصرخ في واد، وصار الوحدوي مثارا للسخرية من بعض المتلبرلين القادمين من مفاهيم الاتصال الحديثة، القاطعة بجدوى الإقليم والمتهيبة من فكرة الرقعة الكبيرة، ذات الهيبة الإمبراطورية، والجاثمين في نقل الحضارة الغربية بكل ما فيها إلينا، تحت دعاوى اللحاق بالعصر الحديث، فيما بدت من بعيد ودون أن نتقدم لدراستها بعض الثقافات العالمية تخوض غمار الدفاع عن معناها ووجودها، بأسنان ثقافتها ومثقفيها الذين أرسوا حالة من الاتصال المنطقي بين ثقافاتهم وما تنتجه الحضارة الغربية من ثقافات، وتقدمها لعالم تفككت فيه المفاهيم بسرعة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، ولعل النموذج الآسيوي يشهد بقوة الانتماء للثقافة الأصلية، وما يمكنها أن تصوغه في مراحل تقدم مجتمعاتها نحو الحداثة الغربية، وتسخيرها لتطوير مجتمعاتها، والنهوض بها. إن الاتصال الثقافي مع الغرب ليس مريعا، كما قد يبديه بعض الأصوليين والمتطرفين، ولكن الاتفاق معه، يحتاج إلى منطق يحقق فيه نوعا من التفاهم الذي لا يقوض وعينا بمشتركاتنا الثقافية كعرب، لهم روح مشتركة، وثقافات ذات أصول تقترب كثيرا من بعضها، والوعي بأننا أمة، لم يكن عارا في يوم من الأيام، كما يظهره بعض المتمترسين في تسديد سهام التردي إلى وجودنا، وإحباط آمالنا بإنتاج وعي جديد لفكرة الأمة والوحدة، وإسقاط المفاهيم القومية الماضية على واقع الحالة التي نعيشها اليوم، قد يبدو في مكان مثير للرفض، خاصة من قطاعات واسعة من أبناء مجتمعاتنا، ذوي الأعراق والعقائد التي تختلف في مضامينها عن الأصول العربية التاريخية. من هنا فإن منطق إعادة صياغة: من هو العربي ومن هم العرب، في أطر تتيح لجميع أبناء أقاليمنا فرصة الجلوس معا والحوار على قاعدة التفاهم والتواصل، هي الأكثر قوة وتنويعا لوجودنا، حيث تخلق هذه الإعادة في تقريب مفهوم العربي والعرب، حالة من الاشتباك النوعي بيننا، وتصبح أكثر إلحاحا، وتسديدا إلى مرمى التنوع الحضاري الذي قامت عليه الحضارة العربية الإسلامية فيما سبق، والتي شددت على فحواه، ولم يتقوض إلا بعد أن اختل إدراكنا لمعنى التنوع، وأصبح مفهوم الأمة مرتكزا على اثنتين فقط: الدين واللغة، فأصدر هذا المرتكز تعليماته بإعدام حالة الالتقاء على أرض التنوع والاختلاف والتشارك الإنساني. فالاتفاق على تعزيز قيم الحوار والتواصل وإسقاط الحواجز الثقافية بين مجتمعاتنا وأقاليمنا، وتنمية حالات التفاهم والتعارف بين أفرادنا، وتوسيع نطاق المشاركة في الحكم والعمل والبناء والتنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والبيئية، وتقريب لغة الحديث والتفاهم، والتعريف بثقافاتنا واحترامها، كل هذه المسائل وغيرها، تفضي في النهاية إلى التقريب فيما بيننا، وصياغة وجودنا بروح تسعى إلى التغيير والنهوض بقوة من رماد التراجع، والتوجس من المستقبل. وحين نصغي إلى صوت القسمة فإننا سنذهب إلى أكثر المناطق عزلة عن العالم والعصر الذي نريد أن ننهض فيه ونتقدم.. وهنا يأتي دور المثقفين، المنتمين لمجتمعاتهم والعارفين بخبايا ثقافاتهم، والمدركين لأهمية دور الثقافات قبل الأمكنة والأقاليم في التغيير وإنتاج التحولات الحقيقية، ولكننا قبل ذلك نحتاج إلى صوت قوي، ربما أقوى من دوي الموت الذي يهدد شعوبنا باحتلالات وحروب وانتهاكات جديدة غير تلك التي تحدث الآن، لجعل مثقفينا يستيقظون من سباتهم وخوفهم وتراجعاتهم وارتباكهم أمام ما يجري، وعدم قدرتهم على تفسير راهنهم وفهمه، بما ييسر لهم الخلوص إلى قراءته بوعي ينتج وعيا جديدا ومختلفا، لإعادة صياغة معنانا على هذا الكوكب. [email protected]