كتب الصحفي الأمريكي روبرت وورث مقالا نشرته نيويورك تايمز في 29/10/2011م بعنوان The Arab Intellectuals Who Didn't Roar وترجمتُه التقريبية: «المثقفون العرب الذين لم يَزأروا»، يعلق فيه على ما يراه هو، وغيره، ظاهرةً لافتة من ظواهر «الربيع العربي»، وهي أن «المثقفين» العرب لم يقودوا الربيع العربي ولم يسهموا كثيرا في التمهيد له. ومع ذلك فقد ذكر بعض المثقفين العرب الذين أسهموا في التمهيد لهذا الحراك من خلال مناوءتهم للأنظمة الساقطة، ومثَّل لذلك بالروائي المصري علاء الأسواني ومواقفه المعارضة لنظام مبارك. ويثار هذا الموضوع كثيرا عند مناقشة ظاهرتين واضحتين – في أثناء هذا الحراك وبعد ظهور نتائج الانتخابات التي أجريت في تونس ومصر. وتتمثل الظاهرة الأولى في أنه لم يكن للثوار الشباب قيادة واضحة، والظاهرة الثانية أن الأحزاب «الإسلامية» هي التي فازت في الانتخابات، في مقابل تراجع الأحزاب ذات المنطلقات المدنية. وتؤخذ هاتان الظاهرتان دليلا على أن «المثقفين» العرب لا يمثلون شريحة مجتمعية واضحة المعالم، وأن تأثيرهم كان محدودا في مصر وتونس وغيرهما، بل يصل الأمر إلى اتهامهم بأنهم كانوا يمثلون جزءا من الأنظمة الدكتاتورية الزائلة، وأنها كانت تستخدمهم في تسويغ سياساتها. لكن ما حدث في مصر وتونس يشهد بأن هذا الرأي لا يتوافق مع الواقع. ذلك أن «الشباب» كانوا هم أول من بدأ التظاهر في الميادين العامة وكسر حاجز الخوف، وسميَت الثورات باسمهم توكيدا لهذا الدور البارز. وهم ينتمون-عموما- إلى التيار الوطني العام الذي تلقى تعليما مدنيا مطعما بالمفاهيم السياسية والثقافية الحديثة، ولم يكونوا يرفعون، طوال أيام التظاهر، حتى سقوط النظامين، إلا شعارات حديثة تقوم على قيم ثقافية، كالحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية. ولم يرفع أحد – حتى الحركات «الإسلامية» التي شاركت متأخرة في التظاهر – أي شعارات إسلامية. ولم تكن التظاهرات التي احتلت الميادين العامة وليدة لحظتها – على عكس ما يقال دائما؛ فقد كان في مصر على وجه الخصوص حراك ثقافي مناوئ للنظام السابق منذ عقود. ويشهد بذلك أن الانتاج الثقافي بمجموعه، في مصر خاصة، من رواية وشعر ودراسات اجتماعية ومسرح وسينما ومقالات صحفية وأشكال أخرى من الإنتاج الفكري والأدبي والفني، كان يغلب عليه الموقف النقدي من النظام، وتعزيز المفاهيم السياسية والاجتماعية الحديثة. ومما يبرهن على ذلك ما أشرت إليه في مقالي «مفارقات الربيع العربي» (الشرق، 13/ 1/ 1433) من رسوخ المفاهيم الثقافية والسياسية الحديثة – كالحرية والديموقراطية والانتخابات والمعارضة، وغيرها، طوال العقود الماضية في تلك المجتمعات واستخدامها في معارضة سياسات النظام. لهذا يمكن القول بأن التراكم «الثقافي» المتواصل لعشرات السنين هو ما أدى في نهاية الأمر إلى «الربيع العربي» الذي ساعدت بعض الظروف على وصوله إلى لحظة الانفجار في أوائل العام الماضي. ومن أكثر البراهين دلالة على أن «الربيع العربي» قام على المفاهيم الثقافية الحديثة أن الحركات «الإسلامية» نفسها بادرت إلى استخدام الأدوات السياسية التي تقوم على هذه المفاهيم، كالانتخابات وتكوين الأحزاب وإعلانها عن حمايتها لحقوق المرأة وغير المسلمين، وعدم التدخل في الحريات الشخصية التي صرحت بأنها ليست من أولويات الدولة، والتسامح مع ما تتطلبه السياحة من توفير الجو العام لها، والتغاضي عن مخالفة بعض الممارسات فيها لما يتوقع من الخطاب الإسلامي. أما الاستدلال بفوز الأحزاب «الإسلامية» في الانتخابات على أنها هي، وحدها، التي تمثل الإرادة الشعبية، فليس على إطلاقه. إذ يمكن التساؤل هنا عن مدى تمثيل هذه الأحزاب لإرادة المواطنين قبل «الربيع العربي». ويمكن القول بأن الحركات «الإسلامية» نفسها، على الرغم من أنها كانت من أبرز معارضي النظام السابق، كانت تتمتع بقدر عال من الحرية في التواصل مع المواطنين من خلال قنوات كثيرة لم تكن متوفرة لغيرها. بل إنها كانت تعطي تلك الأنظمة نوعا من «الشرعية» من خلال العمل معها في تزييف إرادة الشعب عن طريق دخولها الانتخابات- المزيفة دائما – لتفوز بمقاعد معدودة يرسم النظام سقفها، ويحتج بوجودها على نهجه الديموقراطي المزعوم. لذلك فهي شريك لتلك الأنظمة من حيث تزيينها صورتها وقبولها بخفض سقف مطالبها للإبقاء على هذه الحظوة. فإذا كان صحيحا أن هذه الأحزاب تمثل الإرادة الشعبية، فلماذا لم تكتشف قوة حضورها وتمتُّعها بهذه الشعبية الجارفة في المجتمع قبل الثورة؟ ولماذا لَمْ «تزأر»، إذن، وتبادر إلى الثورة السلمية، لتسبق الشباب إلى فضل الريادة؟ ولماذا لم تشارك فيها منذ البداية؟ أيكون سبب عدم قيادتها للحراك أنها لم تكن تعرف ما لها من حضور جماهيري؟ أم لأنها لا تمتلك الشجاعة لتبادر؟ أم لخوفها من أن تفقد هامش الحركة الذي كان النظام يسمح لها به؟ أيمكن القول بأن فوز الأحزاب «الإسلامية» الكاسح في الانتخابات يمثل إدانة لها لتخليها عن واجبها الذي كان يُلزمها أخلاقيا بالقيام بالثورة على تلك الأنظمة، قبل غيرها؟ وربما يوحي الادعاء بعدم إسهام المثقفين في «الربيع العربي» بخوف الأحزاب «الإسلامية» الفائزة من معارضة التيارات المدنية التي تقوم على القيم الثقافية الحديثة لها، وخوفها من فقدان الحضور الطاغي الذي حققته في الانتخابات. ويدل على ذلك معارضتُها لاستمرار المظاهرات التي تقوم بها فئات شعبية كثيرة يأتي على رأسها «شباب الثورة»، وانحيازها إلى صف المجلس العسكري ضد مطالب هؤلاء، ورفعها شعار «البرلمان لا الميدان» الذي يبدو أن الغرض منه التفرد بالسلطة وإبعاد التيارات المدنية التي لم تفز في الانتخابات عن مواقع اتخاذ القرارات المصيرية، خاصة صياغة الدستور. والمأمول أن تتخلى الأحزاب «الإسلامية» الفائزة في الانتخابات عن ادعاء التمثيل «الحصري» للإرادة الشعبية، وألا تغتر بقوتها العارضة فتقصي التيارات الوطنية الأخرى. إذ ربما يقودها هذا الغرور إلى سياسات خاطئة، وربما يُفقدها كثيرا من التعاطف الشعبي معها ويؤدي إلى تراجعها في نهاية الأمر.