تتحاوطنا ثمة أيقونات تحمل من التفاعلات المادية والنفسية التي ترتبط بنا بصور مختلفة، فينشأ السياج الاجتماعي التفاعلي من حولنا، لتختزل ذاكرتنا شساعة المُكوِنْ المشهدي السلوكي ليتكئ في ناحية الذاكرة ممزوجاً بخيوط رفيعة تحمل مراكز استقبال إثارات تنشيطية فيما بعد، هذه الإثارات مابين نفسية ومادية، مُتمثلة في إعمال الدماغ لاستحضار مشاهد عبر الذاكرة، كما حدد ديكارت -الفيلسوف الفرنسي- موطن الذاكرة في كونها في ثنايا الجسم، إشارة لتمركزها في الدماغ البشري، أو إعمال البُقعة النفسية التي تجذب- كما المغناطيس – تلك المشاهد لذاكرتنا. وهنا يتضح لنا مساحة تداعي الأفكار في الذاكرة النشطة، فالأم التي فقدت ابنها الشاب أو زوجها أو أحد الأقارب من الدرجة الأولى على وجه التحديد، بحادث سير شنيع، ولنفترض أن هذا الحادث وقع بين سيارة هذا القريب وشاحنة على سبيل المثال، نجد هذه الأم على الرغم من امتداد الزمن بسنواته العديدة، وانطفاء ذلك الحدث من محيط ذاكرتها النشطة، إلا أنها في حال رؤية شاحنة من نفس النوع على الطريق السريع خاصة، تُستثار ذاكرتها لتستحضر تفاصيل تلك المرحلة الأليمة، وتُرافقها صورة ذلك المفقود تلك اللحظة ويبقى فترة من الزمن يُرافق ذاكرتها التخيُّليَّة، فتزاوج المشهد المرئي من خلال الخيال والتخيلات، لتستعر مشاعر الحزن والأسى في الأعماق، فنحنُ نُصور مراحلنا الحياتية بتفاصيلها المهمة خاصة، ومشاهدها غير العابرة، واكتنازها عُمقاً وربطاً بماهيتنا، في جزء ما من ذاكرتنا الخاملة، فتُستثار بعد حين بمنشطات ومُحركات تدفع بها لتطفو على سطح الذاكرة النشطة. هل نحنُ قادرون على تطويق ذاكرتنا وتنظيمها حال تمت استثارتها؟ بظني أن الإجابة عن هذا السؤال غير مُوحدة، والسواد الأعظم سيجيب بالنفي، مُعللاً إجابته بأن ما يزورنا من مشاهد وأفكار مُرتبطة بمرحلة سابقة.. ليس بالإمكان محوها من ذهننا في لحظة توهجها في جدار التفكير، فالذاكرة تفرض نشاطها على مساحتنا الذهنية حال نشطت، وهذا واقع ومنطقي جداً، إذن تلك هي المُجابهة الحيَّة التي لا يمكننا تفاديها، لكننا بالإمكان تقليص مساحتها في مواطن الذهن وبالتالي وبشيء من التدرج محوها ونسفها من تلك المساحة عبر إعمال التخيل بصورة أكثر زهاء، سواء فيما يرتبط بحدث حصل في زمن مضى أو ابتكار حدث له وقع إيجابي وإن كان من نسج المُخيلة الذاتية، فالذاكرة نتاج لتلك العوامل الممتزجة نفسية واجتماعية ومادية، فماذا لو تم تحوير المثير لمثير آخر فيه من الارتباط بذاكرة المُستثار «الأم الفاقدة قريبها في حادث شنيع»، كإثارة أجواء معينة تدفع بذاكرتها لاتجاه آخر! هنا ستنطفئ ذاكرة الأسى وتخمد تدريجياً لتعود لمدارجها، وتبدأ مساحة التفكير تتسع مُتشبعة بالبديل الآخر الذي قمنا بإثارته بواسطة بعض العوامل سواء كانت هذه العوامل نفسية أو مادية مرئية أو محسوسة، لنشبه العملية بمثال مرتبط بحياتنا اليومية: شدة التركيز في إنجاز عمل ما، كإعداد بحث أو التحضير لاختبار مهم، وبشكل عرضي يتداخل صوت عالٍ كصوت طفل يصرخ بشكل متواصل أو صوت آليات حفريات تقوم بصيانة الشارع القريب من المنزل، فمصدر الإزعاج هذا مثير يُشتت الذهن عن عملية التركيز في ذلك العمل الذي كنا منهمكين فيه، هكذا هي الذاكرة فقليل من تمارين التخيل واختلاق التخيل غير المرتبط بحدث حقيقي أحياناً كفيل بتغيير بوصلة ذاكرتنا، ونجد بعضنا تتسع مساحة التخيل لديه لدرجة أنه يعمد لاختلاق أحداث ترتاح لها نفسهُ، وبتكرار ذلك يجعل ألفة بينه وبين ذلك الحدث المُتخيَّل، ليصل لمرحلة الشعور بألفة وارتباط بالحدث وكأنهُ جزء حقيقي من حياة مضت أو حياة قادمة، يختلق الدماغ تصورات كاملة أو جزئية لحدث لم يحدث، هذا ما فسره علماء النفس والإدراك من خلال مجموعة من الأبحاث «باختلاق الذاكرة». يبدو الأمر لدى بعضنا جنونياً أو أنه من الصعوبة القفز وتجاوز شريط الذكريات بطريقة فصل المشاعر وارتباطها بمرحلة قوية من مراحل حياتنا، لكن بالإرادة والتطلع لحياة جديدة خالية من الأحزان والمنغصات، وبشيء من التكرار وإعادة المحاولة سيتبدد كل ما هو عسير.