تعتبر الرقابة على الأنشطة الفكرية في المجتمعات المنغلقة والأنظمة الشمولية من الأدوات التي تعتمدها هذه النظم للحفاظ على كينونتها وإبقائها دون تغيير. وكلما كان المجتمع موغلا في الانغلاق كانت الرقابة قوية شديدة البطش لكل من يحاول اختراق حصونها وقلاعها المشيدة حول مجتمعها، وبالمقابل كلما كان المجتمع منفتحا متسامحا مقرا للتعددية وحرية الرأي ضعفت الرقابة وقل دورها. وبدلا من أن تكون هي الوصي المتحكم في كل واردة وشاردة، وفي كل صغيرة أو كبيرة تمس الأعمال والأنشطة الفكرية من نشر وتوزيع وتحديد الموضوع ضمنا وحتى شكلا، تتحول الرقابة إلى جهة استشارية لا تمنع أو تسمح، بل يُطلب منها إبداء الرأي والمشورة من جهات الاختصاص التي تنظر إلى الأمور من منظار مختلف، مرجعيتهم في ذلك القانون الذي يحظر مصادرة الرأي ويكفل حرية الفكر والمعتقد والتعبيروالوصول إلى المعلومة دون حواجز أوقيود. وحينما ينحرف المجتمع الديمقراطي عن هذا النهج فإن الاستمرار في ذلك يغدو غير ممكن ويتم التدخل لتصحيح هذا الانحراف وعدم تركه ليعوق تطور المجتمع. وتمارس الرقابة في المجتمعات المنغلقة دورا كبيرا في حياة الناس كونها ترى نفسها الجهة الوحيدةالمدركة لما يهدد أمن واستقرار المجتمع والنظام، وأن أفراده قصّر لم يبلغوا سن الرشد بعد، ولا يدركون مدى المخاطر والأضرار التي تلحق بالنظام وبأنفسهم إذا ما عصوا الرقيب ورفضوا ما يمليه عليهم. وهي إذ تقوم بدورها السلطوي هذا، تضع نفسها فوق إرادة الجميع و تعزل نفسها عن نبض المجتمع، وما يجري فيه من حراك ومساع نحو التغيير. إن مقص الرقيب في المجتمعات المنغلقة صدئ ولكنه حاد وقاطع. والحظر مصير أي مطبوعة أو عمل فني يرى الرقيب في نصها أو معناها ما يتعارض مع رؤيته أو تقديره، دون اكتراث لرسالة الكاتب أو لوعي القارئ وذوق المتلقي، مثلما يحدث من حظر لأعمال هادفة وجادة في السينما والمسرح، أو في عدم السماح بإقامة الحفلات الموسيقية الراقية وغير ذلك من الأعمال الفكرية والإبداعية التي لم يعد الإنسان المعاصر يحيا بدونها. إن هذا النوع من الرقابة يستفز المتلقي ويدفعه للبحث عما حظره الرقيب. لذا يجد رعايا هذه البلدان حين سفرهم للخارج متعة في زيارة المكتبات ومعارض الكتاب والمسارح والتعرف على ماهو محظور في بلدانهم.ومع هذا وبالرغم من شدة الإجراءات الرقابية، إلا أنه يندر أن تجد مكتبة خاصة وقد خلت من كتاب محظور دخل عبر الحدود خلسة. لقد ولّت تلك الأيام، ولم يعد مفتش الجمارك في حاجة ليقلب الحقيبة رأسا على عقب، باحثا عن كتاب أو مجلة خبئت بين زوايا الحقيبة. وأصبحت معارض الكتاب في مختلف البلدان تتنافس في استقطاب أكبر عدد من دور النشر، عارضين فيها مئات الكتب ذات الاتجاهات الفكرية والسياسية المتنوعة، التي لم يكن الرقيب يجيزيها من قبل. إننا نعيش عصرا لم تعد تجدي فيه قيود الرقابة وأصبحت الكتب أو المعلومة مهما كان مصدرها ومحتواها في متناول أي شخص بمجرد لمسة مفتاح ليس فقط في الحاسوب بل وفي التلفون النقال.