في كتابه الشهير (مهزلةُ العقلِ البشري) يقولُ علي الوردي: (كنت أزور ذات مرة معاملَ فورد في مدينةِ ديترويت ثم عرجت بعد ذلك على زيارةِ الحيِّ العربيِّ الذي كان قريباً منها، وقد اندهشتُ حين وجدت نزاعاً عنيفاً ينشبُ بين المسلمين هناك حول عليٍّ وعُمَر، وكانت الأعصابُ متوترةً والضغائنُ منبوشةً، وكنت أتحدث مع أحدِ الأمريكيين حول هذا النزاعِ الرقيع، فسألني الأمريكيُّ عن عليٍّ وعمر: (هل هما يتنافسان الآن على رئاسةِ الحكومةِ عندكم، كما تنافس ترومان وديوي عندنا) فقلت له: (إن علياً وعُمَرَ كانا يعيشان في الحجازِ قبل1300 سنة، وهذا النزاعُ الحاليُ يدور حول أيهما أحق بالخلافة؟). فضحك الأمريكيُّ من هذا الجوابِ حتى كاد يستلقي على قفاه، وضحكتُ معه ضحكاً فيه معنى البكاء، وشرُّ البليةِ ما يُضحِك). ما أعادني لهذه الحادثةِ هو ردودُ الفعلِ الواسعةِ التي أثارها أحدُهم بقوله قبل أيامٍ: («يزيد بن معاوية» بفعلته القبيحة بأهل المدينة عليه من الله ما يستحق، وأن يجعل لعنه سنة تأخذها الأخلاف عن الأسلاف، حتى يوم القيامة)، ويبدو أنَّ هذا القولَ وما يسبقُه يصلحُ أن يكونَ أنموذجاً لتبيانِ طريقتِنا في قراءة ِالتاريخ، إذ لا نقرأه للتأكدِ من صحةِ حوادثِ الماضي، خصوصاً تلك التي مثَّلت منعطفاً تاريخياً، وكانت لها تداعياتٌ خطيرةٌ على الأمةِ فيما بعد، من حيث تعزيز حالةِ الانقسامِ والتشتتِ والفوضى، و ذلك بتذكيةِ الخلافاتِ والنزاعاتِ الطائفيةِ والمذهبيةِ وتكفير الطوائفِ لبعضها، أو من خلال اعتمادِ بعضِهم عليها في تبريرِ ما يرتكبُه من أعمالٍ هي أبعد ما تكونُ عن الإسلام، فهل من المنطقِ والحكمةِ أن يكونَ أكبرُ همِّنا من قراءةِ التاريخِ هو الحكمُ بجوازِ لعنِ فلانٍ أو عدمِ لعنه، وإثبات أنَّ فلاناً أتقى من فلان، أو فلاناً أحقُ بالخلافةِ من فلان!، في حين أنَّ الأممَ الحيةَ إنما تقرأُ تاريخَها من أجلِ تنقيتِه من الزيفِ والكذبِ والشوائب، وهي تُخضِعُ كلَ الرواياتِ التاريخيةِ للنقدِ الداخليِّ والخارجيِّ بهدفِ التأكدِ من صحتِها، استخلاصاً للأحكامِ واستلهاماً للعظاتِ والعبرَ، كما أنَّ اللعنَ والسبَّ والشتم َّوالحكم بالجنةِ أو النارِ لا تدفعُنا خطوةً واحدةً إلى الأمام، فضلاً على ما فيها من مجافاةٍ للأخلاقِ والدين: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ولَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فمن يقرأ تاريخَ الدولةِ الأمويةِ بوجه خاص ستستوقفُه الكثيُر من الرواياتِ التاريخية، ويحتاجُ قدراً كبيراً من البلادةِ لتصديقِها، كتلك الواردةِ في (معركةِ الحرةِ واستباحةِ المدينة) وهي التي اتخذَ منها أخونا الكريم مبرراً لِلعنِ يزيد بن معاوية، مثل روايةِ (العصامي) عن استباحةِ المدينة عندما قال: (وافتُضَّ فيها ألفُ عذراء، وإنَّ مُفتضَّها فعل ذلك أمام الوجهِ الشريف، والتمس ما يمسحُ به الدمَ فلم يجد، ففتح مصحفاً قريباً منه، ثم أخذ من أوراقِه ورقةً فمسحَ بها، نعوذُ بالله، ما هذا إلا صريحُ الكفرِ وأنتنه)، فهل يُعقلُ أنَّ هذا يحدثُ وفي المدينةِ بعضُ الصحابةِ والتابعين ممن لم يشتركوا في معركةِ الحَرَّة، بل آثروا الوقوفَ على الحيادِ كابن عمر وعلي بن الحسين، ومحمد بن الحنفية، وسعيد بن المسيب، وأبي سعيد الخدري، فإننا نسيء إلى هؤلاءِ الأخيارِ من حيثُ لا ندري عندما نُقِرُّ بتلك الحوادثِ دون إنكارِهم لها، كما أنَّ ذات التاريخِ يُخبِرُنا بما كان عليه الجيشُ الإسلاميُّ في أثناءِ الفتوحاتِ الإسلاميةِ من العدلِ والأخلاقِ والرحمةِ وحُسن المعاملةِ لأهلِ البلادِ المفتوحةِ غيرِ المسلمة، فكيف يريدون منا تصديقَ أنَّ هذا ما كان يفعلُه جيشُ الشامِ مع أهلِ المدينة؟!. المشكلةُ في قراءتنا للتاريخِ أنها ليست ناقدة، بقدر ما أنها تقومُ على الانقيادِ والتسليمِ بكل ما قرره الأولون، من غيرِ نقدٍ ولا بحثٍ ولا تمحيص، لذا تجدُ بعضهم يفترضُ افتراضاتٍ خاطئةٍ ثم يبني عليها أحكاماً، ولمَّا كان التاريخُ كلَّه بحاجةٍ إلى البحثِ والتمحيصِ فإنه في حال الأمويين أولى، لأنَّ المؤلفات التاريخيةَ لم تُكتَب إلا في فترةٍ متأخرةٍ عن القرنِ الأولِ الهجري، وعلى ذلك فإنَّ العباسيين هم الذين كتبوا تاريخَ الأمويين، ومن الطبيعي أن تكونَ كتابتُهم أبعدَ ما تكونُ عن الحياد ِوالموضوعية، لأنهم لهم أعداء، وإنه لا أغبى ممن يأخذُ التاريخَ عن عدوٍ أو حاقد!.