مساءلة الخطاب الديني المتشدد حقل ملغوم، لا يعرف الخائض فيه متى يكفّن في أي من ألبسة الإقصاء الجاهزة حسب مقاسه: (دون لحية = علماني، دون شارب = ليبرالي ، يدافع عن حقوق المرأة = تغريبي، بلحية خفيفة = إخواني، امرأة = ناقصة عقل ودين) لدى أصحاب هذا الخطاب تكنس النقاشات، وتدس تحت زوايا سجادة فهمهم المتشدد فلا تقلقل نهجهم. هذا الخطاب يعتبر نفسه ممثل الإسلام الأوحد، فيما يقوم أتباعه بجهد منظم وصل بغير المتدين للتشكك حال سماع رأي آخر في الدين. إرهاب للعقول لحرمانها حقها في النقد، مما يُضعف أو يسيء إلى الخطاب المعتدل. في رد هذا الخطاب على مذاهب أخرى تخالف قناعاته – مثلاً – تجده يسفه كثيراً منها باعتبار الإسلام سابق على التمذهب، لكنه في الوقت نفسه يحاول اختزال الدين في فهمه هو، ولا يرى التناقض لأنه لا يرى في الإسلام الذي يقدمه مذهباً لاحقاً للدين. فإن عرض للأديان الأخرى سفه معتقداتها باعتبار الإسلام آخر الأديان! فهو الأول مرة، والآخر مرة، ويستخدم الحجة وضدها مقوضاً نقاشاً بعد آخر، لا منشغلاً بغير الانتصار لذاته، وما يحارب به فكرة يحارب بضدها الأخرى. إقصائيته ظاهرة، وتناقضه قديم. في كتاب شرح منتهى الإرادات توكيد على أن المرأة كلها عورة، ثم في الزواج «لمن أراد خطبة امرأة وغلب على ظنه إجابته نظرُ ما يظهر غالباً كوجه ورقبة ويد وقدم» فكيف يظهر غالباً وهذا الخطاب لا يجيزه؟! المرأة من مشاكل الخطاب المتشدد الكبرى، فكتاب مثل «صيد الخاطر» يدسه بكل التبجيل بعض أصحاب هذا الخطاب في أيدي ناشئة يُتَوسم فيهم الخير، لا يكاد يذكر المرأة إلا بسوء، وما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله تعالى «ولهم فيها أزواج مطهرة» فلو تفكر الإنسان في جسد مملوء بالنجاسة ما طاب له ضمه»! ونتيجة عدم مساءلة هذا الخطاب يعيش بعضنا إيغالاً في كهف الخصوصية، والادعاء بانفرادنا بتطبيق الشريعة، نرددها للعالم ونصدقها، ولو تتبعنا بعض الفتاوى بخصوص حج المرأة مثلاً لوجدنا بعض الفتاوى تحرم حج السعودية بلا محرم وتبيحه لخادمتها الإندونيسية! فهل هذا الخطاب يفصل الدين على المقاس، ويجعل الخادمة عبدة لا حرمة لها ولا وزنا، أم إن هناك من النصوص القطعية ما يؤكد مثل هذه الفتاوى؟ ومن هذه التناقضات التي أراها في بعض الفتاوى إلى التناقضات في بعض الأحكام القضائية، نجد – مثلاً – قضية واحدة يختلف الحكم فيها من قاض لآخر، وربما يختلف الحكم فيها عند نفس القاضي مع اختلاف المكان الزمان. مساءلة الخطاب المتشدد تبدو كالمحذور والمحظور حتى على أفراد التيار المتبني للخطاب ذاته، وإلّا فكيف ينتشر مثل هذا الخطاب ويجد البيئة المناسبة لاستمراه؟ من تناقضات هذا الخطاب أيضاً اعتماده الكبير على نصوص الأحاديث الشريفة ربما دون الانتباه للضعيف منها أو حتى التي تناقض بعض المرويات للقرآن صراحة، وهنا ربما تتحمل المنظومة التعليمية المسؤولية لتركيزها على تحفيظ القرآن الكريم أكثر من تدبره وتفسيره حتى في مدارس التحفيظ. ومأزق هذا التيار الحقيقي يكمن أيضاً في تعامله مع المرأة، فهو خطاب ذكوري أولاً، وهو يدرك أن منح المرأة حقوقها قوة للرجل وللمجتمع، وبالتالي فهو يقصيها، ويقصي أي رجل يطالب بحقوقها، فحتى الفاسق له مكان في جنة المتشدد وليس لامرأة شقرت حاجبها، لا لأنه خطاب يكره المرأة فقط، بل لأنه يخاف صحوة مجتمعية عامة، فيغش الرجل كما يغش المرأة، لكي يعيش هو! هذه الخطابات تشغل الرجل بالمرأة ليصرفهما عن حقوقهما، فلو أضحت المرأة الوقفة بجانب الرجل لا تقل عنه شأنا، ولا يستطيع الإساءة لها قانوناً وعرفاً ولم تكن وراءه بل بجواره فأين سيصلان؟