في بحث أجرته جامعة «ويسكونسِن ماديسون» وشمل 7500 من طلبتها أجاب 82 % منهم أنهم يُفضّلون أخذ المساقات التي تتوفر فيها محاضرات مرئية على الإنترنت. وفي عام 2006 قام شاب أمريكي من أصل بنغالي يُدعى «سلمان خان» بنشر دروس في الرياضيات على يوتيوب لتعليم أبناء عمّه. ومع مرور الوقت بدأ الناس يتهافتون على دروسه، التي قال عنها أبناء عمه إنهم يُفضلونها على الجلوس مع ابن عمهم مباشرة، لأنهم يستطيعون إعادة ما يقول وإيقافه دون الشعور بالحرج، وفي أي مكان وفي أي وقت. ثم قام سلمان بتأسيس «أكاديمية خان» التي تُعد مؤسسة غير ربحية وهي موقع إلكتروني به أكثر من ثلاثمائة مليون درس تعليمي بالفيديو، ويزوره أكثر من عشرة ملايين طالب في الشهر. وقبل أيام شاهدتُ فيلماً اسمه «هي» يروي قصة رجل يعيش في زمن تتحكم الآلة فيه بكل شيء، المنزل، المكتب، السفر.. إلخ. وعندما قام بتنزيل النسخة الجديدة من نظام تشغيل كمبيوتره -الذي يتحكم بحياته- ظهر له صوت فتاة، وفهم بعد حوار قصير بأنها صوت النظام الجديد.. ولأنها مطلعة على كل تفاصيل حياته وترافقه في سماعة أذنه طوال اليوم فإنه أدمن التحدث معها حتى تعلق بها ووقع في غرامها، فأحبها كما لم يُحِب أحداً من قبل. وفي تفاصيل الفيلم لا يملك المشاهد إلا أن يقع في حُب الآلة أيضاً، لأنها موجودة معنا أكثر مِنّا. نشعر بالخوف من مفارقتها جيوبنا أو أيدينا ونحن في البيت أو في خارجه. لكن المعضِلة لا تكمن في أننا نُفضّل التعامل مع الآلة، بل نشعر أيضاً بأريحية كبيرة عندما نفعل ذلك. فالآلة لن تضحك علينا إذا قلنا شيئاً سخيفاً، ولا تشعر بالحاجة إلى إطلاق الأحكام علينا في كل موقف. كنتُ أنزعج عندما أدخل محلاً لشراء شيء ما وفي وسط الصفقة يرن هاتف البائع فيتجاهلني ليرد على زبون «محتمل» يسأل عن بضاعة ما ويطلب تفاصيلها ببرود، بينما أقف أنا «الزبون المضمون» أمام البائع أحمل نقودي في يدي. فأقول في نفسي: «كيف يفكر هذا البائع! هل هو مستعد للتخلي عن مالي مقابل غريب على الطرف الآخر من السماعة؟» لكنني فهمت الآن: تعاملنا مع الناس وجها لوجه صار متعباً؛ فأنت مضطر للابتسام والملاطفة وتصنع تعابير مرضية على وجهك لثماني ساعات متصلة في اليوم.. إن ذلك لا بد أن يكون عملاً منهكاً جداً! كم أشعر بالأسى وأنا على وشك كتابة هذه الجملة: «لقد أنقذتنا الآلة حقاً، ولا أملك إلا أن أعترف بذلك». رغم انتزاعها كل ما هو بريء وعفوي فينا، إلا أنها أراحتنا من ثقل بعضنا على بعضنا. فيمكنك اليوم أن تنهي أعمالك باستخدام البريد الإلكتروني وتقنيات إدارة المكاتب عن طريق الإنترنت. ويمكنك أن تضحك وتتباحث في شؤونك الخاصة مع شخص ما عن طريق «واتسآب»، بل إنني أعرف صديقا ظريفا يدرس في بريطانيا ولم أره يوما، لكننا نتبادل النكات عن طريق واتساب كل يوم حتى أشعر اليوم بأنني أعرفه منذ الطفولة. المفاجأة هي أن أفعالا إنسانية عذبة وجميلة صارت تحيا وتموت في الآلة؛ كالقراءة، والموسيقى، والحب. وهذا الأخير فِعْلٌ يُفترض بالحواس أن تَلِدهُ وتُنميه، كحاستي البصر واللمس وغيرهما، لكن ذاك ليس الحال اليوم، فالحب صار محله الهاتف وليس القلب، واللقاء أصبح في برنامج ما وليس على كرسي قديم في محطة قطار، أو عند جذع شجرة وارفة الظلال. كل تلك الأشياء صارت قصصاً مثالية من الماضي، ولا أدري كيف سيكتب أبناؤنا قصص حبهم في أدبياتهم وقصائدهم! لقد أنقذتنا الآلة لأنها منحتنا فردانية دفعتنا للاهتمام بأنفسنا أكثر، والآلة هنا لا تعني الطابعة التي اخترعها جوتنبيرج أو السيارة التي اخترعها فورد، بل هي كل جهاز تحمله في جيبك، وتضعه أمامك في المطعم، ويغفو على وسادتك عندما ينزلق من يدك لحظة خلودك إلى النوم، بكل ما فيه من برامج وتطبيقات وعوالم شاسعة. قد يسألني القارئ الآن إن كنتُ أمدح الآلة في هذا المقال أم أذمها؟ وجوابي أنني لا أدري ما شعوري الحقيقي تجاهها، ولكنني أعلم يقينا بأننا نعيش عالماً مختلفاً عن كل عوالم البشر الذين كانوا قبلنا، يصعب إسقاط التاريخ عليه، ونحتاج إلى التفكير والتأمل في أبعاده جيداً حتى نَعْلَم كيف نتعامل معه.