إن السؤال النقدي عن شكل الكتابة الشعرية هو سؤال لا يذهب نحو شكلانية فارغة من المعنى، وذلك يمكن أن يعني كثيراً بما فيها أن تلك العلاقة الكامنة بين وعي الشاعر وظهور القصيدة مساحة توغل في إظهار ما استبطنه الشاعر قبل مباشرة الكتابة، بينما سيقف البعض ليتأمل فعل القراءة وهي تحاول ملء تلك الفراغات التي يسببها ارتباك العلاقة بين الكلمات داخل جمل تشير أكثر مما تصرح، ولعل القول السابق لازمة في النظر إلى ديوان الشاعر البحريني مهدي سلمان الذي سماه «أخطاء بسيطة»، وعند الاقتراب من الديوان سيبدأ هناك ختل ما يذهب بالمتلقي نحو أسئلة مشرعة قد لا تجد الإجابة سهلة ومفتوحة أمامه. ينقسم الديوان إلى أربعة أقسام تحت عناوين: صورة مخدوشة، قطعان الهمس السوداء، كتابة على بخار الزجاج، ومن دون فائدة. ويبدو الديوان في صورته العامة تأملا عميقا في الذات، تلك التي تتحول وهي في طريقها للتغاير، تدرك في داخلها ما يعتمل من صراعية بين قديمها وجديدها، بين ما كان وما هو في الصيرورة الراهنة، عبر حوار يعتمل في الذات ويذهب عميقا لاكتشافها، بينما كي نكتشف ذواتنا يجب أن ننفصل عنها، فماذا يمكن أن يمثلنا أكثر من القلب. ليظل الشاعر ينفصل عن الذات بتمثل الطفل الذي كان، والذي يمكن أن يتذكره، بما ترك من خربشات فوق الباب، وهو يدرك بلا مواربة أنه ذاك الطفل الذي كان ولكنه أي الطفل ليس إلا عكازة للغياب، والطفل هناك يكمن عميقا في داخله وفي شرايين الذاكرة، لا يدركه إلا هو، يتذكره عندما كان ينظر في المرآة المعلقة، لا يستطيع رؤية إلا رأسه طفل صغير أمام مرآة معلقة ربما للكبار، والرأس هو محط الأحلام والأفكار كما هو محط الروح أو هو حالة وجودية تسيل في مجرى الشعر فيقول من قصيدة معنونة ب (على السلم المكسور): «وللطفل ليل، ولي من مراياه خربشة فوق باب وأعرفه هكذا.. مثلما هو بعض أنا الآن.. عكازة للغياب، ومرآته لم تزل ((لا ترى.. غير رأسي)).. بعشش تحت السحاب». إن الذات هنا وهي تتأمل في وجودها تدرك ذلك الطفل الذي كان والذي لا يزال بعض الأنا الحاضرة، لذلك تمتد الكتابة بشكل الشطرة التفعيلة، بينما تعود الثوب لتكون معادلا موضوعيا للذات التي تصير غيريا أو تظل هي ذاتها لينحل ذلك الصراع بين ماضي الأنا وحاضرها، تلك الذات التي لم تأت من فراغ بل هي التي داخل صراعها تمتد من ذلك الماضي الذي ينبع من الأجداد، وبين الحاضر الذي يحاصر الذات، إن ذلك الصراع يتمثله الشاعر في ثوب كحلية كجنية لا تتقن الاختباء، يصطاد بها وجع الأجداد الموتى الطيبين أو غضب أخته التي أتعبها غسل تلك الثوب، تلك الثوب التي يتطابق معها ويشبهها وتشبهها جنية ربما تكون أفق القصيدة التي تعبر عن الذات، تلك الذات التي لم يشترها أب ولا أخ، وإنما هي هبة الحياة التي تتلبسنا في كل حين. «هو الثوب الكحلية، جنية لا تتقن الاختفاء، أصيد بها وجع أجدادي، أجدادي الموتى.. الطيبون، أو غضب أختي التي أتعبها غسلها.. ثوبي الكحلية التي تشبهني، لم يشترها لي ولد ولا أخ، وهبتها ذات كسوة فتيقنت أن أصيرها.. أو تصيرني». إن ما يثير هنا هو شكل الكتابة الذي تحول من شطرة التفعيلة إلى ملء السطر كاملا على طريقة كتابة قصيدة النثر التي ظهرت بها في الثقافة الغربية، ولكن هذا الشكل ذو دلالة هنا في حل مسألة الصراع التي تحاول التخلص منه عبر عملية التماهي، ولكن المعالجة تختلف من قصيدة إلى قصيدة في الديوان، ولكننا نلمح تكرار الشكل الذي ينتهي بذات الطريقة في «نفخة على غبار مضيء، غابة الشمع، نوم الغربان، رعدة الصبي، الجملة المحذوفة من آخر القصيدة، من دون فائدة، سرير الروح». وتبدو المسألة مقصودة تماما في وعي الشكل، وذلك إذ نلمس تحول الشكل الموسوم بعبارات ذات دلالة فيما سبق أن أشرنا فنجدها تبدأ ب(هو) التي تتكرر في قصيدتين (نفخة على غبار مضيء وعلى السلم المكسور)، بينما تظهر (أنا) في بداية المقطع الأخير في قصيدة (الجملة المحذوفة من آخر القصيدة)، ويبتدئ المقطع مرة آخرى ب(ها نحن) في قصيدة (كتف صدفة)، بينما تظهر عبارة (قلبي وأعرفه) في بداية المقطع الأخير من قصيدة أخرى، بينما تظل بقية القصائد بلا مقدمات لتحول الشكل. إن التساؤل الذي بدأناه عن ذلك التأمل العميق الذي يودي بالذات إلى تأملها في الوعي باعتبارها موضوعا له، إنما يفرض الغيرية في الذات، وهي تظهر بأناها أيضا وبالآخر المكون لوجودها، بينما تظل الذات أقرب إلى تلك المحاورة التي تتكلم عن القلب باعتباره غيريا أيضا. «قلبي وأعرفه حين يرتحل الكذب المفضوح.. والركض الأبدي في اتجاه واحد، حين يخدعني.. ويمارس علي دور الأب الرقيب فيما يقوم هو بنزواته الرعناء من وراء ظهري، حين يجبرني على التصفيق له ما إن يبدأ في سرد حكاياته المفبركة بغباء شاعر، وهو يعلم تماما أنني أعرف كم هو كاذب ومحتال..».