في البدء.. كشف تعاطي المجتمع أفراداً ومؤسسات مع كورونا عن حجم المأساة في الوعي والسلوك والمهنية، ولهذا حديث قادم لا ينفصل عن موضوعنا هنا إذا أرجعنا البصيرة كرة أو كرتين. ولتكتمل فكرة المقال السابق، أود التذكير بالجدل الذي ثار مع قرار وزارة الصحة الأخير حول عمل مراكز الرعاية الصحية الأولية لفترتين، وما صاحب ذلك من تعليقات ورؤى اتخذت مسارات مختلفة ما بين مصالح ضيقة وإسقاطات شخصية وتحريض قانوني، لكن كل ما طرح لم يجرؤ على ملامسة الحقيقة أو الاقتراب منها؛ لأن النخبة لدينا سواء كانت مثقفة أو متخصصة تجبن -كعادتها- عن مواجهة المجتمع بمثالبه. أنا مؤمن أن القرار لن يصحح الخلل العميق في خدمة المراكز الصحية الأولية، وإن كان سيخدم مسارات معينة كالتخفيف عن طوارئ المستشفيات ومراعاة بعض الفئات من المرضى. لكن الأمر الذي تجلي إثر كل النقاشات في المجالس والصحافة ومواقع التواصل ينتهي إلى حقيقة واحدة وهي أن رعاية المريض المتكاملة تصطدم بالواقع الاجتماعي، وبمعنى آخر فإن تضارب المصالح بين خدمة المريض بمهنية وبين حاجة الموظف الاجتماعية أمر ظاهر الملامح يشهد له واقع الخدمة الطبية. إن المرض لا يعرف وقتاً، وإن المريض الملازم للسرير الأبيض يستحق الرعاية نفسها عند العاشرة صباحا وبعد منتصف الليل، وإن الجاهزية المهنية لا بد من توافرها في طاقم الصباح والمساء. لو قمنا باستعراض واقع المستشفيات العامة والمركزية -وهي التي تحوي العدد الأكبر من المرضى المنومين- وراقبنا الخدمة المقدمة في آخر الليل من حيث العدد الواجب حضوره أو مأمونية الخدمة ومعايير أخرى لخرجنا بنتائج مرعبة ستزداد حدتها عند تأمل العوامل الآتية الذكر. التسرب المر والمبكر للكوادر الفنية من تمريض ومختبرات وأشعة وصيدلة وفنيي صيانة ومشرفي نظافة إلى مواقع إدارية هروبا من الفترات المسائية وما يتبعه من رحيل الخبرات المورثة للمهارات وإفقاد الجيل الجديد من حديثي التخرج القدوة والمهنية. وأما الفتيات فنظرا لتغير مزاج المجتمع نحو الزواج بهن ليصبحن أمهات عما قريب يتناقض عملهن المسائي مع واجباتهن الأسرية. كل ذلك يمكن تغطيته حاليا بالعنصر غير السعودي الذي بدأ يتضاءل مع حضور السعودة، ومع ضعف التدريب والرقابة سيكشف كل ذلك عن خلل في البنية الخدمية تكون محصلته النهائية «الإضرار بالمريض». ليست المشكلة كلها في الفرد السعودي وتكوينه وانحيازه لثقافته الاجتماعية المعرضة عن العمل والإنجاز، بل إن لوائح الخدمة المدنية وضعف رقابة وزارة الصحة يصنعان مزيجا علقما يتجرعه المرضى عند حاجتهم للخدمة الآمنة. مرة أخرى وبوضوح، خدمة المرضى مؤسسياً وفق أدبيات الطب الحديث تقتضي يقظة ومهارة ورقابة -مهما نأى بالمريض مكانه وزمانه- لا توفرها بيئتنا الإدارية الحالية المتسمة بالخمول والتراخي، والحاجة ماسة جداً وبسرعة لمراجعة مجمل الوضع وتصحيحه عبر قرارات وأنظمة صارمة غير قابلة للاختراق من الغول الاجتماعي الذي يضرب ويبكي ثم يسبق ويشكو! وللحديث صلة عن مقترحات للحل.