أيها الليل؛ لطالما أحسستُ أنك أصدق المخلوقات وأكذبها، وأرهفها شعوراً وأشدّها قسوة، وأطولها صبراً وأقصرها نفَساً، كاتمٌ للأسرار مُفشٍ، حافظٌ للوِداد خائن، نصيرٌ للمظلوم ظالم، كاسبٌ للمدح والذمّ، جالبٌ للفرح والهمّ، صبورٌ قنوط، بسّامٌ عَبُوس، مهيبٌ ذليل! أيها الليل؛ ما كنتَ شيئاً من هذا الأشياء التي ذكرتُ؛ إنما أنت صورةٌ نأخذها من أنفسنا فنلبسها إيّاك، فتارةً تكون هذه وتارةً تكون تلك! وأجمل صورك صورة الوطن الجميل! أخاطبك أيها الطويل القصير فاسمع مني: تحت عباءتك تزدحم الكواكب والنجوم والأبراج وناطحات السحاب، ويضيق فضاؤك بآهة محزونٍ أو دمعة حائر! أليس هذا غريبا؟! تحت عباءتك يسرق الكبراءُ كنوزَ الأرض… وتحت عباءتك يستفُّ الفقراء تراب الأرض، لا يتسوّلون وهم مغمورون! صديقي الليل أو عدوّي: كم أُشفق عليك وأنتَ ترى هذه الأحزان تحتك؛ حزن الفقراء والمهمّشين والبائسين والباحثين عن دواء ووظيفة وأمان! وترى جشع غيرهم يمتدُّ مزهواً متكبّراً لا يوقفه أحد! وكيف استطعت أن تحوي أسرار الأغنياء والأثرياء وكلّ أصناف البشر؟ ولم تَبُحْ بسرِّك لغير الشعراء؟! كأني بك تقول: كلُّ هؤلاء لا أهتمّ لهم؛ أهتمُّ فقط بومضةٍ خيالية يقذفها قلب الشاعر في لحظة تفجّر إلهامه فتستقرّ في قلبي! حتى الشعر قد ضاع يا رفيق التائهين؛ سيطر عليه جماعة من أنصاف المتعلّمين فسجنوه في قفص الركاكة وقصّوا جناحيه بمقصِّ الحماقة! ماذا ؟! تسألني عن السلام؟! وكيف تسألني عنه وهو أكذوبةٌ بشرية أنت أول الشاهدين عليها؟! ضاعت دِماء الناس بين التكفير والغلوِّ والخيانة، ولم يعد هناك سوى القليل من أصحاب الحكمة الذين أصبحوا سفهاء في نظر كثيرين! أيها الليل: هَبْ لنا من تجربتك شيئاً نتقرّب به نحو الحقِّ والسلام والشِعر والصفاء، فلا تزال بلاد العرب تئنُّ في هزيعك الأخير!