شاهدة قبر في زحام الكلمات يحي السماوي 158 صفحة من القطع المتوسط إلى أمي أهدي الديوان.. ومن كالأم تستحق الهدية والإهداء.. لم تكن هديته باقة ورد تستحقها.. ولا عقد لؤلؤ أو ألماس هي جديرة به.. هي أغلى من كل درر الدنيا ومصاغاتها وثرواتها.. إنها الحب الذي يتجاوز حدود الكلمات ومسافات المساحات.. حب له مذاق المشوق. ومرارة الشوك.. وحرارة الدموع.. في حبه الشكوى من شقاوة البلوى وهو يشهد قبور الأموات طالهم الغدر.. ولا أحياء فاتهم الغدر.. لنستمع إليه.. إلى الشاهدة والمشهد: لي الآن سبب آخر يمنعني من خيانة وطني لحاف سميك من ترابه تدثرت به أمي ووسادة من حجارته في سرير قبرها.. هذه هي مقطوعته الأولى يعبر فيها عن أعمق ما في أعماق من انتماء لوطنه.. وولاء لترابه الذي ضاع أوكاد في مهب الربح.. وعن مقطوعته الثانية: وحده فأس الموت يقتلع الاشجار من جذورها بضربة واحدة يعني به فأس قنابل وصواريخ الحرب الظالمة التي طالت وطنه على أيدي الغزاة.. يعود إلى أمه: قبل فراقها كنت حيا محكوما بالموت بعد فراقها صرت ميتة محكوما بالحياة للحق.. وللحقيقة يا شعرنا ما زلت حياً قبل رحيلها وبعد أن حرحلت.. صوتك صوت حياة.. في مقطوعته الخامسة يقول: لماذا رحلت قبل أن تلديني يا أمي؟ أدريك تحبين الله.. ولكن! أما من سلالم غير الموت للصعود إلى الملكوت.. السلام التي تنشدها طوع أرادتك.. ورهن حبه للحياة التي لا تنحني فيها جباه.. ولا تهان فيها كرامة. في مقطوعته الثالثة عشر: الفصل ليس شقاء فلماذا غطاني أشقائي بكل هذه الأغطية من التراب ربما كي لا تسمع نحيبي وأنا أصرخ في براري الغربة لا غرابة يا سماوي فأنت الغريب عن أشقائك كيف لهم سماع نحيبك؟! في مقطوعة السابعة عشر: الطيبة أي ما عادت تخاف الموت لكنها تخاف على العصافير من الشظايا وعلى بخور المحراب من دخان الحرائق والأمهات اللائي أنضب الرعب أثدائهن الخوف مصدر حياة.. وحين تقوى سلطة الموت على سلطان الحياة يأتي الخوف مشروعاً في مقطوعته الرابعة والعشرين اتسعت دائرة أحزانه: حين مات أبي ترك لي فاتورة كهرباء حين مات ولدي ترك لي بلدة العيد الذي لم يعشه أمي تركت لي عباءتها أتخذ منها سجادة للصلاة أما أنا فسأترك لأطفالي قائمة طويلة بأمنياتي التي لم تتحقق، منها مثلا أن يكون لي وطن آمن، وقبر.. أجدى لك وأفضل من ميراث مادي لا إرث فيه تحسد عليه.. الموروث ما كان باقياً.. في مقطوعته السابعة والعشرين قصة صفعة: يوم صفعتني، بكيت كثيرا ليس لأن الدم أفزع الطفل النائم في قلبي ولكن، خشيته أن يكون وجهي الفتي آلم كف أمي ألم تسمع بالمثل القائل، ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب؟ حلقته الثلاثون كانت أكثر ثباتاً: اليوم سقطت حفنة أوراق من شجرة مخاوفي أمي لن تمرض بعد الآن، لن تشقيها غربتي وأنا منذ اليوم لن أخاف عليها من الموت أبدا أمك ودعت عالمها الشقي، وأودعت ذاكرتها وذكرياتها إلى المجهول.. إنها تتحرك خارج جاذبية البشر.. في حلقته الخامسة والثلاثين كانت أمه لا تغلق باب البيت حتى وهي خارجة، لماذا؟ سواء أكانت داخل البيت أو خارجه تترك الباب مفتوحاً رغم أن الذئاب لم تتخل عن أنيابها ليس لأن أثاث البيت لا يساوي سعر القفل إنما لأنها تؤمن أن العسس هم اللصوص في الوطن المخلع الأبواب.. إدراكاً منها أن بيتها ليس أغلى من بوابة الوطن.. لهذا تركته مفتوحاً ومشرعاً.. عين الصواب.. الحلقة الواحدة والأربعون تذكر رحيلها كما يتذكر الطفل أمه: حين رحلت أمي جف حليب الطفولة في فمي والزبد في مفرقي لم يعد ملح السنين صار أولى خيوط كفني مذ رحلت أمي وأنا جثة تمشي على قدمين في مقبرة اسمها الحياة! ماذا بيدك صنعه؟ أنت واحد من بلايين الناس فقدوا حليب الرياض لأنه مر المزاق بلا طعم تذكر شاعرنا «المنطقة الخضراء» في بغداد.. كانت لها نضارة الربيع.. تحولت إلى خريفية يرتع فيها القطيع: إنها أكثر صمماً من حائط، واعتم من بئر كهف أضيق من كفن وأكثر وحشة من مقبرة عشبها أشد وخزاً من الدبابيس فراشاتها الشظايا، وسقسقاتها أزير الرصاص المخاتل يا عزيزي.. المكان من السكان.. كان لها أهل يشبعون خضرتها.. ويجددون نضارتها.. واليوم غرباء.. لا أهل ولا أقرباء. في مقطوعته الجميلة «البحر أصغر من أن يروي وردة»: الفرق بين الحرية والحربة نقطة واحدة بين البحر، والبر حرف واحد ومع ذلك فإن شعوباً كاملة غرقت بالدم وأوطانا شاسعة سقطت من خارطة العالم نتيجة انزلاق نقطة من موضعها في كلمة أو خطأ في الإملاء وقع فيه قائد مسعور أو طاغية أحمق ينظر إلى العالم من فوهة مسدسه المهيأ للإطلاق آه.. لو أن الطواغيت يتعلمون الإملاء قبل إصدار القرارات وتعليقها على لوحة إعلانات الوطن من قال لك إنهم لا يعرفون الإملاء؟ ولا يقدرون عليه؟ كل منظمات العالم الدولية تتحرك وفق إملاءاتهم ومصالحهم. شاعرنا السماوي يقنع من أرضه بالحصى، ومن بحرها بالزبد.. لأن جودها هو وجوده.. مثل طفل يتهجى ترتبك روحي وأنا أنسل بمشط كهولتي ظفائر صباك ربيعك في عينيَّ، وخريفي في بردتك فأمطري لأستر بعشبك عورة صحرائي مساءاتي معطلة النجوم. تستجدي قمرك زخة ضوء مقطع منها يسكنها الشوق والحنين إلى أحب تربة إلى قلبه، لا يهم أكانت صحراوية جرداء.. أم بحر مزبد.. المهم أن يجد وطناً.. «من دحي تمثال الحرية في نيويورك» عنوان جديد.. بماذا أوحى؟ أيها النصب الرخامي المنتصب كالمشنقة ليس مشعلا للحرية ما ترفعه. اخفض يدك! فالبنتاجون يراه فتيلا لإحراق حقول العالم وال2010 تراه سيفا لاستئصال رقاب من يرفض الانحناء لسادة المعبد الأبيض.. شاعرنا في حاجة إلى حبل يمده من هيروشيما إلى بغداد كي ينشر عليه ثياب الأطفال الذين حصدتهم مناجل البنتاجون. ومن ناكازاكي حتى الفلوجة كي ينشر عليه قائمة بأسماء الأمهات اللواتي أثكلهن الديناميت الأمريكي.. ومن هافانا حتى سنتياجو كي ينشر عليه صفحات الكتب السوداء لراعي البقر الأمريكي وهو يقود قطعانه عبر البحار لإشاعة (الدم. قراطيه) هكذا يتمنى.. ويتمنى أيضاً شيئاً جديداً بعيداً عن النار والبارود. لو كنت ربيعاً لما تركت صحراء ألا وأقمت فيها مهرجان خضرتي لو كنت خريفا لانتحرت.. كي لا تحني الوردة رأسها حزناً على الفراشات لو كنت مطرا لواصلت بكائي كي تضحك السنابل.. لو كنت سوطا لجلدت الجلاد «كي لا نذل أكثر» يدعو شاعرنا إلى التوحد في مواجهة الأخطار: لأن الشفة الواحدة لن تكون فماً وليس من نهر بضفة واحدة لأن الوردة لا تكون بمفردها حديقة وما من طير يكون سربا بمفرده فقد آن لكل الجداول أن تتوحد لتصنع الطوفان «أنتِ قصيدة أنوثة» مقطوعة وجدانية.. قصيدة حب بعيدة عن الحرب وشجونه.. لا يجرؤ الزمن على الإتيان بمثلك خشية أن يهرب المكان حين دخلت خريفي استحال ربيعا.. أيتها الندية كزهور التفاح. الدافئة كخبز صباحات بيوت الطين لا تخافي من جنوني حين أقشرك مثل موزه فإن عنكبوت فمي سينسج لكِ قميصاً من حرير القبلات كثيرة تلك القبلات من فمك.. «أبجدية أخرى» ابتكرها شاعرنا لها وجه الصحة: ولكن هل يقدر؟!! في حضرة الوردة استغني عن يدي فألمسها بنظراتي في حضرة الوطن استغني عن أبجديتي فأكتب بدمي، أو دموعي «امتلاء» عنوان جديد: شوك التفاؤل أجدى لروحي من حرير القنوط لا أكتفي بالنظر إلى النصف المملوء من الكأس وحين يكون فارغا املأه برحيق الأماني وندى الأمل.. وشهد الأخيلة وإذا أبصر جسدا يرتجف انفخ حجرة قلبي وأدثره بنبضي الفأل مدخل رحب للتواجد.. شريطة أن يكون عنواناً لعمل فاعل يمنحه القدرة على تحقيق الهدف، والغاية المرجوة. أخيراً مع هوامش من كتاب العمر في حلقته الأولى: موائدنا تخلو من الدسم، قدورنا بيضاء واعزاق نخيلنا لم تعد تسيل عسلا فما الذي أغوى هذا الذباب البشري لدخول العراق؟ أكاد لا أتفق مع شاعرنا.. العراق مخزون خير.. أرضه خصبة.. وأعماقه ذهب أسود.. وموقعه إستراتيجي يسيل له اللعاب! (الحلقة الثانية): رأت المآذن ممددة على القباب والنخيل حليق الرؤوس ولا ثمة غير دخان الحرائق لذا اكتفت اللقالق والطيور المهاجرة بتأشيرة ترانزيت ما دامت لن تجد في العراق مكاناً مرتفعاً لأعشاشها الطيور كما الإنسان تبحث عن مكان آمن لا تواجد فيه لقناصين من مدرسة الموت.. (الحلقة الثالثة): النفط الذي أشبعنا جوعا متى يجف؟ سنبقى ننزف دما حتى آخر برميل. ولهذا قيل عنه إنه نعمة مقرونة بنقمة.. (الحلقة الأخيرة): من أجل ليلة على القمة أمضيت أعواما تتسلق السفوح لنجعل من سفوحنا قمما كي لا نرغم على مغادرتها بهذا المقطع المتفائل، والمتفاعل مع إيحاءات اليقظة التي لابد منها تنتهي الرحلة مع شاعر الاغتراب يحيى السماوي في ديوانه «شاهدة قبر» كان فيه الشاهد لكل المشاهد.. أعطاها لنا نغماً.. وشعراً فنياً رائعاً.. على غير ما اعتدت منه في دواوينه ذات الجرس والإيقاع.. في كلتا الحالتين.. كانت عدسته اللاقطة قزحية الألوان.. مليئة بالصور.. أتمنى لغربته أن تنتهي. الرياض ص.ب 231185 - الرمز 11321 - فاكس: 2053338