تحت شمس ضبابية يجلس الليل، متكئا، ساهرا، مثلما الليل، قربي. يتأمل وجهي، كمن يتعرف شيئا فشيئا على نفسه في الصور، فأرى في خرائط كفيه، ظل طريقي التي أتهم العمر فيها طويلا وأنجد. تحت هذا العريش المحنى بألوانه، يجلس الليل عندي، عباءته من نجوم وعسجد وجبهته من ضياء ومسجد. يتدثر ثوب « عروس من الزنج»، كي لا يضيء فيفنى، وكي لا يسيل على طرقات المدينة أو يتبدد. أسميه باسمي إذا ما طربت، وأهجوه « بالرمز»، إما غزا الدهر روحي، وعربد. مصادفة نلتقي، حينما تبطئ الشمس في نومها أو تغطي ظفائرها بالسحب فأسأله أن يكون نديمي على قدح الشعر في موقدي، أو يكون غريمي. على لذعة النار، كان الحديث شهيا كما الجمر إما تفتح في صدر أنثى و كالمزن إذ يتراقص فوق السقوف. «نزلت على الرحب يا صاحبي»، فاحتس القهوة الآن، صهباء، لا تشبه البن إلا قليلا ودعنا نحرر هذا المساء من اللغو، حتى تلين رقاب الحروف. سجى الليل في حزنه، ثم قال: وحيدا أنا أبد الدهر لم تك لي لغة تتجرأ يوما على رسم قبلة ولا ضحكة تتراقص في خد طفلة. وحيدا، بلا امرأة تستبيني بأوصافها فأجن عليها بلا امرأة تتشظى لشوقي إليها بلا فرح في الولادة أو جزع في الممات. مللت الوقوف على طلل الأمكنة مللت احتفاظي بأسراركم وسلالات أسلافكم والغبار... «هلا بك يا ضيفنا»، وكما ستراني هنا واحدا ووحيدا أمد يدي للنجوم وألثم خد الصبا والصبايا بما يتيسر من كلماتي، فيزور عني القريب ويسرف في الشنآن علي البعيد. تململ ضيفي بقرب الوجار طويلا وأنشد: أنا ملك السهو، لي نصف أوقاتكم ولي ما يفيض عن الصمت بين الخليلين في قبلة عابرة أمد ظلالي على الشجر المتلظي بجمر النهار وأسفح بردي على خلوة العاشقين وأفتح للنائمين فصيح خيالاتهم وأغفر للشعراء ضلالاتهم، منذ ليل امرئ القيس حتى رياح الدميني ولي أن أسائلكم أي ظلم تحملته من شياطينكم حين أغدو قرينا بأشعاركم للظلام؟ جبنتم عن القول إن الظلام من الظلم.. ليس الظلام من الليل، يا أيها الشعراء الغبار..!! تمهل قليلا أيا صاحبي، واتئد يسمونك الليل، حين تغني وحيدا بلا أصدقاء ويسمونني «الليل» حين أصيح وحيدا، ليرقص من حولي الأصدقاء. ومثلي ومثلك من يتقاسم سر الفلاة، إذا ما تبدت على مغرب الشمس، حسناء حسناء هل تعرف الحزن يا صاحبي في تفاصيلها حين تغدو خلاسية اللون كالصمت، منسية ووحيدة؟ ويا صاحبي أنا حارس الليل، لا ريح لي غير قلبي ولا إثم لي غير أني وثقت بأن النهار سيفتح نافذتي، إن كتبت لعينيه بعض القصائد، مسكونة بالمجازات، والأمنيات الطريدة. أنا حارس الريح والوقت، و(الشنفري)، و(السليك)، فذرني قليلا، لأغلق حقل استعارات شعري وما يتوارد في قلمي من خيال لكيما أسمي «الرزايا» بأسمائها، وأغني معك: بأن الظلام من الظلم، يا سيدي فلتعرني: قميصك كي تأنس الطير لي ووقوفك، حتى تراني الجبال شبيها بها ثم كن لي نديما حميما وضيفا مقيما لنشعل ساعاتنا بالأنين وأوهامنا بالجراح الجديدة. تحت شمس ترتب أغصانها للمنام يقف الليل مشتملا بعباءته، قرب وقتي ويكسر بين يديه مجاز اللغات ناشرا ريشه في أقاصي الجهات دونما راية للوداع ولا وردة للعتاب الأخير.