في جلساتٍ أسبوعيَّة مُعتادة في محافظة عنيزة -أرتادها أحياناً- تلتقي وجوهٌ من المجتمع يختلفون تأهيلاً علميّاً ووظيفيّاً قبل تقاعدهم اختلافاً واسعاً، جلسات غير محدَّدةٍ موضوعاتها ومحاورها مسبقاً، ولا تُدار حواراتها نحو أهداف مبرمجة، جلساتٌ تظهر شبيهاتها في المحافظات والمدن الأخرى، لكنِّي آثرتُ أن أقصر كتابتي هذه عمَّا أعايشه في محافظتي، ففي تلك الجلسات تدور أحاديثُ مرتاديها ابتداءً غالباً عن أخبار المجتمع وتحليلاتها، وما يرتبط بالأسماء الواردة فيها من سير وأنساب ومصاهرات، ليتجاوزوها إلى محور الشعر الشعبيِّ بتأثير من بعض روَّادها أو مستضيفهم لرواية قصائد شعبيَّة قديمة ترتبط بقصصٍ تسبق الشعر فيأتي وكأنَّه يؤكِّدُها، أسلوب ابتدعه رواة من العرب الأوائل فصار منهجاً حفز معاصرين للأخذ بطريقة حمَّاد الراوية وخلف الأحمر في الاختلاقات في الرواية قصَّةً وشعراً أو قصَّة تسبق الشعرَ لتحسين روايته، ويتشعَّب الحديث والحوارُ حول ما ورد فيها من أسماء لأشخاص ولمواقع وأمكنة، ومعظمها تتناول البيئة المحليَّة الضيقة لمحافظة عنيزة، وأحياناً ينتقل الحوار ليأتي مقارنة بين عنيزة وما يحيط بها من مدن على طريقة تعظيم عنيزة وأهلها مكانة تاريخيَّة قديمة، ومحاولة لاستجلاء تراجعها عن ذلك بأسباب ينسبونها لسواها غالباً. وحين يتجاوز الحديث محور الشعر الشعبيِّ بتأثير من بعض مرتادي تلك الجلسات بأمل أن يكون للشعر الفصيح وللفكر مكانةً ودوراً يتاح ذلك أحياناً وعلى عجلٍ للترضية لا أكثر، وقد يجرُّ ذلك إلى استعراض تغريدات تويتريَّة ومقروءات صحفيَّة تناولت الشأن الأدبيَّ والاجتماعيَّ فيما يسمَّى بمقالات الرأي، لتنطلق من ذلك حوارات حول مؤهِّلات كاتبيها ما إِنْ كانت حقيقيَّة أم وهميَّة، لينبري من عقدته التأهيلُ العلميُّ العالي ليصف معظم المؤهَّلين بالدكتوراة بالتعالي أو باختبائهم بأبراجهم العاجيَّة عن هموم المجتمع وحواراته، وحتَّى لا يظهر المتحدِّثُ في ذلك معمِّماً فيؤاخذ على تعميمه يورد بعض الأسماء وتواضعها بحضور بعض الجلسات مستمعين أكثر من مشاركين بالحوارات مقلِّلاً من التخصُّص الأكاديميِّ للمؤهَّلين علميّاً بالدكتوراة وبأدواتهم للبحث العلميِّ، ليضفي مكانةً ثقافيَّة لصاحب الجلسة بالمقارنة بأولئك متَّخذاً من حضورهم فقط ما يزيد مكانتَه بريقاً؛ لأنَّه تحدَّث في الفلك أو في الفيزياء أو في علم الاجتماع أو في دور العرب في الحضارة الإسلاميَّة بتكرارٍ يعرفه بعض مرتادي جلسته ويحسُّون بشعوبيَّةٍ توجِّه حديثه نحو ذلك، لينطلق ذلك المحاور المقارن المقلِّل من التخصُّص الأكاديمي من طرحه هذا للحديث عن الثقافة بغية أن يكونَ محطَّ الأنظار باعتباره لنفسه مثقَّفاً. وحين يدور الحديثُ عن الثقافة والمثقَّفين يكتشف السامعُ الملاحظ أنَّ بعض المتحدِّثين ذوو ثقافة سمعيَّة اكتسبوها نتيجة لتردِّدهم على تلك الجلسات الضحويَّة أو المسائيَّة والتي تكون بعدد أيَّام الأسبوع لكلٍّ منها فينقلون من تلك لتلك، ويوسِّعونها بمتابعاتهم للبرامج الحواريَّة أو التوثيقيَّة الفضائيَّة، ومن ذلك تأتي طروحاتهم واستشهاداتهم المشكِّلة في معظمها مواقف وصوراً ومقارنات بينها، وهذه الشريحة ما هي إلاَّ صدى سماعي لا أكثر، ومثل أولئك يتوقَّفون وقفات استقرائيَّة لانطباعات سامعيهم، ويستاؤون من المداخلات والتساؤلات من جلسائهم، ومنهم مَنْ ثقافته توحي بقراءاته التي يستشهد منها موثِّقاً مصادره باسم الكتاب واسم مؤلِّفه، إلاَّ أن بعضهم يتجاوز مثل هذه التوثيقات كلَّما توسَّعت قراءاته أكثر، لأنَّه لا يهدف من قراءاته أن يثبت للآخرين أنَّه مثقَّفٌ بقدر ما هو انعكاس لذلك، ومثل أولئك يتجاوزون الحقائق والمعلومات التي تشكِّل معظم طروحات أولئك الموثِّقين، يتجاوزونها إلى الأفكار والآراء التي اكتسبوها من قراءاتهم، وهذه الشريحة بدرجتيها ما هي إلا نسخ لقراءاتهم لا أكثر، ومثل أولئك يتوقَّفون وقفات يستحثُّون بها الآخرين على طرح التساؤلات ليمتدَّ الحديث والطرح ويتشعَّبان إلى جوانب تهدف لإبراز درجة استيعابهم وفهمهم لقراءاتهم ومن ثمَّ إضافاتهم عليها، ويظهر في تلك الجلسات مخالفون دائماً معترضون لمجرَّد المخالفة والاعتراض، بل إنَّهم يخالفون أنفسهم ويعترضون على طروحاتهم السابقة إذا ما تكرَّرت مواضيع الحوار ناسين ذلك فيما لا ينسى الآخرون تناقضاتهم ما بين طرح وآخر، بل ربَّما تناقضوا في جلسة واحدة. وكلُّ أولئك بدءاً من ناقلي أخبار المجتمع ومروراً بالمتحدِّثين عن الشعر الشعبي وروايات قصصه، والمستعرضين لما في جهات التواصل من تغريدات ولمقروءاتهم الصحفيَّة فيها، ووصولاً إلى أولئك السماعيِّين فانتهاءً بشريحتي القرَّاء، وظهوراً للمعترضين المتناقضين، كلٌّ منهم يصنِّفون أنفسهم مثقَّفين ويعطون لها أدواراً في توعية الآخرين وتوجيههم، بل ويتجاوزها بعضهم إلى ما يسمُّونه نقداً إصلاحيّاً يتطلَّب منهم طرح البديل ثقافة تحلُّ محلَّ ما لدى سواهم ممَّن هم محلَّ النقد دون أن يتجاوزوا منقولاتهم. وأحسبُ أنَّ الثقافة تتجاوز اجترار الحقائق والمعلومات ونقل المقولات وطرح المسلَّمات كمحفوظات إلى عمليَّات تتناولها كلَّها وغيرها متضمِّنة التشخيص فالتحليل والمقارنات والاستنتاجات لتنتج الرأي والفكر مكوِّنةً منهما وهجاً ثقافيّاً يدفع لحراك اجتماعيٍّ، فالثقافة تعني كنتيجة لذلك القدرة والمهارة على تكوين الوعي الذاتي بما ينعكس على الحياة فهماً أطوع وإدراكاً أوسع، وممارسة أضوع، لينطلق به المثقَّفُ إلى من حوله أضواءً كاشفةً لأدوارهم ومساراتهم التربويَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة فيرتقي بهم نظراتٍ للحياة وللآخر المشارك فيها فعلاً وفكراً ورأياً، وهذه المهارات والقدرات لا تتأتَّى لمجرَّد رغبة الفرد بأن يكون مثقَّفاً ما لم يمتلك أدواتها، فامتلاك اللغة الفصحى وسلامتها يعطي لصاحبها القدرة على فهم ما يقرأه واستيعابه وفق ما أراده كاتبوه، وعلى الكتابة عمَّا يفكِّر به وفق دلالات ومفاهيم لغويَّة يفهمها الآخرون، كما أرادتها اللغة العربيَّة، وامتلاك أدوات البحث العلميِّ يعطي صاحبها المهارة في عمليَّات التشخيص والتحليل والمقارنات والاستنتاجات وتكوين الرأي والفكر كنتائج لذلك، ويعزَّز ذلك بفهمه للنظريَّات العلميَّة والتربويَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة، وباستقرائه للتاريخ السياسيِّ والحضاريِّ والاجتماعيِّ والفكريِّ لأمَّته وللأمم المجاورة أو المؤثِّرة فيها، لتكون منطلقاته للإفادة من أدواته في البحث العلميِّ وقدراته التعبيريَّة والأسلوبيَّة لتكوين ثقافته الذاتيَّة وثقافته المنتجة الموجَّهة كتابةً وحواراً للآخرين، وهكذا يكون المثقَّف والذي لا أزعم أنِّي أمثِّله بقدر ما أحسب أنِّي أسعى لأقترب منه ومعي آخرون يرتادون تلك الجلسات ويستاؤون من صخبها الحواريِّ وثرثرة شرائح من مرتاديها كاستيائي أعلاه.