أعني بالأمس ما عاصرتُه قبل أربعين سنة وما قبلها ممَّا اطَّلعتُ عليه قراءة أو أُطلعتُ عليه رواية، فيما أعني باليوم ما أتابعه وأعايشه الآن تفاعلاً واطِّلاعاً، وشتَّان ما بينهما، ليس بإيجابيات ولا بسلبيات كلٍّ منهما، ولكلٍّ نصيب منها، ولكن لما بينهما من اختلافات سأعرضها بحسب تشخيصي ورؤيتي؛ ليؤخذَ منها ما يشكِّل مكوِّناً ثقافياً أبهى من كلّ منهما بانفراده، وأعمق في توجيهه حراكنا الثقافي لما يتجاوز مشكلة الشيحي مع بعض المثقَّفين، ومشكلات المثقَّفين مع أنفسهم ومع غيرهم من التيارات الإسلامية ومع وزارة الثقافة والإعلام، من خلال ملتقياتها الثقافية وأنديتها الأدبية. كان مشهدنا الثقافي بالأمس ذا ملامح بدائية باهتة، قياساً آنذاك بالمشاهد المتقدمة المضيئة في مجتمعات مجاورة، مشاهد ثقافية يطّلع مثقَّفونا حينذاك إليها بطموح يحرِّكه ما يتسلَّل إليهم منها، ويوجِّهه ما يتسرَّب لمجتمعاتنا المحلية منها، عبر منافذ أحكمت مراقبتها بدواعي حماية مشهدنا الثقافي من المقبل المختلف، وصيانته من التغيرات المنعكسة من أدواته ورموزه الثقافية، فيما كانت للمثقَّف في مجتمعنا آنذاك صورة نتذكَّر اليوم بعض تفصيلاتها ومكوِّناتها كطرائف نتندَّر بها، ومشاهد كوميدية تعكس وعياً أوليّاً ووعاءً محليّاً نتسلَّى بها، فمثقَّفونا آنذاك هم أولئك الأجمل والأنصع هنداماً في مجتمعهم الأميِّ، أو شبه الأمي، ذوو الأقلام الأكثر لتزيين جيوبهم الأمامية، وقد يرشُّون أحبارها على ملابسهم استعراضاً، ويتأبَّطون أثناء تحرُّكاتهم اليومية صحفاً أو مجلات أو كتباً لا تتوفَّر للجميع، باعتبارها شواهد متحرِّكة على ثقافاتهم، المتفوِّقون في المسابقات الثقافية عن المدن والعواصم والدول ومساحاتها وأنهارها وجبالها، وعن الكتب عناوينها ومؤلِّفيها، وعن المخترعات والاكتشافات وأصحابها، وعن الأمثال ومطلقيها، وعن الحكم وقائليها، وعن حقائق ومعارف ومعلومات تختزنها عقولهم كموسوعات علمية، أو يبزُّون غيرهم بالمساجلات الشعرية حفظاً لأشعار الحكمة ولشوارد شعرية بحسب الأبجدية العربية، المتصدِّرون المجالس يحكون روايات قرؤوها، أو ينقلون مشاهدات غيرهم في الأقاليم والأمصار من كتب رحلاتهم، الذين كوَّنوا مكتبات خاصة قرؤوا بعض محتوياتها، المفتتحون استعراضاً ثقافيّاً معظم حواراتهم بمقارنات الثقافة العربية بثقافات أخرى، يجمِّلون أحاديثهم بمصطلحات ومقولات أجنبية، وتكرِّر طروحاتهم مفاهيم مجتزأة، أولئك هم مخرجات التعليم القائم على التلقين والحفظ والتسميع في مدارسنا وجامعاتنا منذ الأمس وحتى اليوم. فيما مشهدنا الثقافي اليوم ذو ملامح استعراضية صاخبة جدلية فضائحية إقصائية، ركب ممثِّلوه موجات الحداثة والعولمة، وانساقوا مع توجُّهات عالمية ثقافية وفكرية دون وعي كامل بطروحاتها، كوَّنوا تيارات وشللاً ثقافية تتعاضد للظهور الإعلامي ولإقصاء المختلف عنها، يجادلون أكثر ممَّا يحاورون، ويصنِّفون الآخر تقليلاً لشأنه ولإقصائه عن الساحة الثقافية، أزاح معظمهم الكتب كأوعية ثقافية، وأحلُّوا محلَّها الشيخ جوجل ومدوَّنات الشبكة العنكبوتية، واستبدلوا الحوارات التفاعلية بتلقِّي الحوارات المبرمجة الفضائية، استخدموا وسائل الإعلام التقليدي وأساليبه استخداماً مرحليّاً، وانساقوا وراء الإعلام الجديد بتقنياته وبأساليبه لاستخدامات استعراضية، يفهمون حريَّة التفكير وحريَّة التعبير وفق توجُّهاتهم وصراعاتهم ليس إلّا، اتخذوا النقد الثقافي والاجتماعي والفكريَّ مسارات يصفونها بالإبداعية لطرح رؤاهم الخاصة، وطمس رؤى المختلفين معهم، يتزاحمون على مجالس الأندية الأدبية، ويسابقون غيرهم على مقاعد ملتقيات الثقافة ومؤتمراتها المحلية والخارجية، يصطفون تجاه الآخر المختلف، وينقسمون في غيابه لمجموعات تواجه بعضها، يتشدَّقون بالموضوعية وبالشفافية، وينادون بالأمانة العلمية ومنهم السارقون من الترجمات ومن كتب التراث معظم ما يعرضونه من أفكار وآراء، يتلوَّنون فكراً وطرحاً بحسب المواقف وتباعد فترات الطرح، بعضهم يزيِّنون أسماءهم بحرف الدال غير المعترف بها، بالرغم من انكشافهم في ذلك، وعموماً فالمتَّصفون بذلك هم مخرجات مجتمع انغلق طويلاً وانفتح انفتاحاً قسريّاً وسريعاً؛ فتبيَّن أنه تأخَّر عن ركب الثقافة والحضارة، فظنَّ معظم أولئك أن المال المتوفِّر لهم سيمكِّنهم من اللحاق بمن سبقوهم، بل توهَّموا بأنهم سيسبقونهم ثقافةً وفكراً. فيما الثقافة الحقيقية ليست اجتراراً للحقائق والمعارف والمعلومات المحفوظة، وليست استحضاراً بالمشاهد المزيَّفة، ولا بالأساليب الاستعراضية والمحاكاة الفجَّة، ولكنَّها الأفكار والمشاعر والعلاقات وطرق الحياة المشتركة فيما بين أفراد المجتمع، المتبلورة بالتفاعل فيما بينهم، المنتجة توجيهاً لتفاعل أسمى، الباحثة عن الحقِّ والحقيقة في النفس مشاعر وأفكاراً وتصوُّرات، ولدى الآخرين في طروحاتهم ورؤاهم، فتنتصر لها أنَّى وُجِدتْ وممَّن قُدِّمت، لتطرد بها الزيف والخطأ والخطيئة أنَّى كانت وممَّن انبعثت وتشكَّلت، لتصلح بها النفس والمجتمع لتغييرهما للأفضل، مساراتها تنويرية وتوعوية؛ لهذا فدراسة مشهدنا الثقافي أداة علميَّة فاعلة لمعرفة آليَّاته العقلية والنفسية الموجِّهة سلوك الأفراد والمجتمعات، بحكم أن هناك مجموعة منتجة للثقافة العليا، وأخرى متلقِّية لها متأثِّرة بها مفعِّلة لتوجُّهاتها. نعم، وجدت هذه الثقافة الحقَّة والحقيقية في مشهدنا الثقافي بالأمس ومن مثقَّفيه، وتوجد في مشهدنا اليوم وبين مثقَّفيه، ولكنَّها ما كانت بالظهور اللافت للنظر في مشهد الأمس، ولا المحسوسة بالأثر لدى مثقَّفي اليوم، وإن كانت مؤسَّسات الأمس تبلورت أدوارها بقمع المثقَّف وتشويه الثقافة وحجبهما عن المجتمع، فمعاناة الثقافة ومشكلات المثقَّف اليوم تتبلور بغموض مؤسَّساتها الحالية في أدوارها وفي نظرتها للمثقَّف؛ لذلك فالصراعات بينهما لم تختلف بين الأمس واليوم، وإن تغيَّرت ساحاتها وأدواتها، فمطالب المثقَّفين تتكرَّر ولا تتحقَّق، وتوصيات المؤسَّسات الثقافية تعيقها بقايا من توجُّهات الأمس لكلٍّ منهما، ومحظورات اليوم من تغيرات وصراعات. لا أقدِّم من خلال هذه المقالة نفسي بصورة المثقَّف الحقيقيِّ؛ فلديَّ من رواسب الأمس، وفيًّ من سلبيَّات اليوم قدرٌ، لكنَّه لم يحجب صورة الثقافة التي أتطلَّع إليها، فالثقافة تتطلَّب أدواراً إصلاحية متوازية من المثقَّفين أنفسهم، وتوجُّهات وأدوات وممارسات وأهدافاً، ومن وزارة الثقافة والإعلام باعتبارها الموجِّهة لها المشرفة على مؤسَّساتها، أتطلَّع إلى ثقافة فاعلة منتجة إصلاحاً للمجتمع في شؤونه الأخرى وتنويراً وتوعيةً، تخدم المصلحة العامة بقدر يفوق المصالح الخاصَّة، فهل نتطلع لهذا في أنفسنا ولمجتمعنا؟! سؤال أطرحه على من يصفون أنفسهم بالمثقَّفين أو يوصفون بذلك.