لئن كان وصف الدكتور صالح زياد (أستاذ النقد والأدب الحديث بكلية الآداب جامعة الملك سعود) لأوراق ملتقى جماعة حوار التابعة للنادي الثقافي الأدبي بجدة ب“الضعف”، ممّا أثار حوله كثيرًا من الانتقاد.. فإنه في هذا الحوار يذهب بعيدًا في هجومه على جماعة حوار، واصفًا ما احتواه كتابها عن “الرواية النسائية” من أخطاء لغوية ونحوية بالأمر الذي “يندى له الجبين”، مستثنيًا من ذلك قليلاً من الأوراق التي قدمت.. مشيرًا كذلك إلى أن كثيرًا من الملتقيات الأدبية التي تقيمها الأندية الأدبية لا تعدو أن تكون مجرد ندوات فقط في ظل غياب “الوحدة” سواء أكانت في الموضوع أو المحتوى.. مبينًا أن افتقارنا للتنظير في الحركة النقدية مرده إلى طبيعتنا الاستهلاكية في حياتنا اليومية، مشيدًا بالدور الكبير الذي يقوم به الدكتور عبدالله الغذامي متسائلاً: أيُّهما أكثر أهمية للمملكة اسم الغذامي وأمثاله أم برميل النفط؟! في هذا الحوار سنقف على موقف “زياد” من تنظيرات الدكتور معجب الزهراني، وفي أي وجه خسرناه؟ وما هي أزمة النقد في الساحة السعودية؟ وإلى أي شيء يرد الصورة الشائهة للثقافة السعودية عربيًّا وعالميًّا.. والعديد من المحاور الأخرى.. ضد المحلية الضيّقة * بوصفك أحد أعضاء اللجنة الاستشارية لأدبي الباحة.. ما ردّك على مَن يتهمكم بإدارة النادي عن بُعد.. ومحاباة أدباء من خارج المنطقة على حساب أبناء الباحة؟ نحن -كما ذكرت في سؤالك- “لجنة استشارية”؛ أي أننا دعينا إلى هذا العمل من رئيس وأعضاء نادي الباحة، فلم نقترح على أنفسنا من أنفسنا هذا الدور، وليس لنا الحق في مجاوزة ما يطلب منا الرأي فيه إلى غيره. وإذا نظرت إلى الفكرة من أساسها فإنها تعبِّر عن موقف موضوعي من الزملاء في نادي الباحة، وهو موقف قوة ووعي يتراءى من خلالهما الإخلاص والصدق في العمل الثقافي والرغبة والطموح في إنهاضه ومد شعاعه إلى حيث يكون الاهتمام به والتطلع إليه. الثقافة -ومنها الأدب إبداعًا ودراسة- لا تقوى أو تنهض بحسابات محلية ضيّقة، هي منتج -كما الحياة الإنسانية نفسها- لا يثرى ويغتني إلاَّ بالتعدد والاختلاف. تعدد المثقفين واختلافهم يحسب على مقياس الفردية والامتياز الذاتي، وليس على حساب مناطقهم أو جنسياتهم. عند من يهتم بالثقافة لذاتها، وليس لحسابات أخرى يغدو فلانًا باسمه وشخصه -أي بفرديته- قيمة أدبية أو معرفية. طبعًا حضور أسماء متميزة علميًّا وأدبيًّا إلى الباحة هو فرصة ثمينة لمثقفي المنطقة الذين يعيشون حقيقةً هموم الثقافة، ويعانون أوجاعها وأسئلتها وطموحاتها، ولهذا فلن نجد مثقفًا من أبناء المنطقة، يتّصف بهذه المعاناة ويتمثّل الثقافة في شخصه، يمكن أن يضيق بحضور مثقفين من خارج المنطقة، على العكس هو حدث ثمين في حساباته. أنا وزملائي في اللجنة الاستشارية وفي إدارة النادي -وكلنا من أبناء المنطقة- نفرح بأي مشاركة تحقق جدارة وأهمية. في العام الماضي شارك معنا الدكتور علي الرباعي بورقة جيدة. ويشارك معنا الدكتور سعيد الجعيدي في اللجنة الاستشارية، وآخرون شاركوا في إدارة الجلسات أو في التنظيم، وسمعت أن الزملاء في النادي وجهوا دعوات إلى بعض مَن يتوسّمون فيهم القدرة والأهمية، فرفضوا لأنهم يرون أنفسهم -يا للسخرية- أكبر من أن يُدْعَو!. في كل الأحوال أعتقد أن الثقافة في الباحة تعيش في أيام الملتقى عرسًا بهيجًا بتلاقي المثقفين فيها مع الضيوف من خارجها. خلل الملتقيات الدورية * درجت الأندية الأدبية على تنظيم المؤتمرات والتنافس فيما بينهم.. كيف تنظر إلى هذا النشاط؟ أول ما يمكن ملاحظته في مؤتمرات أو ملتقيات الأندية الأدبية كثرتها، فالنوادي التي لم تقم ملتقى دوريًّا لها -إلى الآن- قليلة، وبعضها من أكثر نوادينا الأدبية بروزًا وامتيازًا في مطبوعاته ومناشطه كنادي الدمام، ونادي حائل مثلاً. وهذا يعني أن المؤتمرات في حد ذاتها ليست قيمة امتياز وتفوق. وأعتقد أنه ليس تحديًّا لأي نادٍ أن يقيم ملتقى أو مؤتمرًا، ولكن التحدّي الحقيقي أن يقيم مؤتمرًا ذا أهمية وقيمة، وأن يستطيع تكرار ذلك بالامتياز نفسه، وألاّ يكون كل جهد النادي منصبًا على الملتقى. لدينا فيما يبدو خلل في فهم مدلول الملتقيات الدورية؛ أي التي تتكرر في موعد محدد كل سنة أو كل سنتين مثلاً. هذه الملتقيات الدورية تعني بالضرورة أن وحدة ما تجعلها دورية؛ وحدة موضوع، أو أشخاص، أو منهج... إلخ، من دون هذه الوحدة لا مبرر لدورية الملتقى أي لتكراره في الموعد نفسه. هو ندوة أو حلقة بحث أو ملتقى من أجل هذا الموضوع أو ذاك. إذا استثنينا ملتقى نادي الباحة السنوي المخصص للرواية، وملتقى نادي الرياض الأدبي كل سنتين المخصص لنقد النقد ومؤتمر الأدباء السعوديين الذي تخصص في الأدب السعودي، وما يمكن أن يماثلها، فليس لدينا إلاَّ ندوات يأتيها جمع من الباحثين، وينتهي سبب التلاقي فيها بنهايتها. لهذا لا يوجد لدينا تعميق للموضوعات الأدبية والثقافية، وإثراء لها وتفتيق لقضاياها وإشكالياتها المتعددة. حقول متعددة * جهدك موزّع بين الأجناس الأدبية على اختلافها.. لماذا لا نرى لك تميّزًا في جنس أو تخصص معين؟ ليس هناك فواصل قاطعة بين الأجناس الأدبية، فهي تتشارك في اتصافها بالتخييل أو المجاز وانبنائها في اللغة. ومعظم النقاد لا يعرفون مسألة الاشتغال في جنس أو نوع أدبي بعينه بطريقة معزولة ومتوحدة تمنعهم من الالتفات لغيره، لأن هذا يُفْقِر أدواتهم ويحجزهم عن المنطقة الغنية التي تَنْتُج عن تداخل الأنواع وتجاورها وتلاقحها. ربما تبدو المسألة أحيانًا مرحلية أو تاريخية، فيكون الاهتمام في فترة بالشعر وفي فترة أخرى بالسرد، وتكون الوجهة جمالية أو نصوصية حينًا وتغدو فكرية أو ثقافية بعد ذلك... إلخ. صحيح أن من النقاد مَن يغلب على إنتاجهم التخصص مثل اهتمام سعيد يقطين وفيصل دراج بالرواية، واهتمام نجيب العوفي بالقصة القصيرة، وعبد القادر القط، وكمال أبو ديب، وعبدالعزيز المقالح بالشعر، لكن ماذا لو جرّب يقطين، أو دراج أدواتهما النقدية في الشعر؟! وماذا لو كتب القط عن الرواية أو القصة القصيرة؟ بلا شك ستكون النتيجة مدهشة!. شخصيًّا بدأ اهتمامي بالشعر، وبشكل أدق، بنقد نقد الشعر، وكانت أطروحتي للماجستير عن الموقف النقدي والرؤية الإبداعية في قضية الغموض في الشعر، وكانت الدكتوراة عن الأصالة والمحاكاة في نقد الشعر. واكتسبت في المرحلتين اطلاعًا على الأفكار والمعالجات النقدية التراثية والعصرية، ولهذا كتبت أبحاثًا نقدية عن التراث النقدي جمعتها في كتابي “القارئ القياسي”. لكنني لم أقف عند الاهتمام بالتراث النقدي بل كتبت عن الشعر كتابي “الشاعر والذات المستبدة”، وعن القصة القصيرة السعودية والخليجية “مجازات الحداثة” الذي سيصدر قريبًا إن شاء الله، بالإضافة إلى أبحاث مختلفة عن الرواية. هجوم على جماعة حوار * جاء نقدك لجماعة حوار قاسيًا بوصف الأوراق التي قدمت بالضعف وأنها للمبتدئين.. لمَ كل هذا الهجوم؟ هذا النقد جاء في معرض إجابتي على سؤال الصديق علي الرباعي المحرر بجريدة الحياة عن قول الزميل والصديق الدكتور حسن النعمي في لقاء نشرته عكاظ، بعد إقرارنا في الباحة موضوع “الآخر في الرواية العربية” إن الآخر حق تاريخي لجماعة حوار في نادي جدة الأدبي، وأنه لا يحق لنادي الباحة اقتناص الآخر... إلخ. وفعلاً كان الآخر موضوعًا لنشاط الجماعة قبل أكثر من سنة، لكن ما حصيلة هذا النشاط؟! لقد رأينا العمل الوحيد للجماعة وهو كتاب ضم قراءات مختلفة عن الرواية النسائية، من بينها أبحاث قليلة على مستوى معقول، والباقي يَنْدَى له الجبين خصوصًا في أخطائه النحوية واللغوية، فأين الكتاب الذي يجمع أبحاث الجماعة عن الآخر؟! وبالطبع فليس ما قلته حكمًا عامًا كما يوحي بذلك سؤالك، فلم أصف كل الأوراق بأنها ضعيفة، ولم أقل إن أكثرها من مبتدئين. تحوّلات جديدة * بدأت جامعة الإمام محمد بن سعود في سحب البساط من جامعة الملك سعود فيما يخص نقاد الأدب والنقد والمشاركة في حركة المشهد الثقافي العام.. بمَ تفسر ذلك؟ بلا شك كانت جامعة الملك سعود رائدة بعدد من الأسماء المعروفة في حقل اللغة والدراسات الأدبية والنقدية والمقارنة، وكان كل اسم من هذه الأسماء على مستوى المسؤول معرفيًا، وليس على مستوى موظف، وبين المسؤولية والوظيفة فرق. بل عرفنا من خلال جامعة الملك سعود عددًا من الأسماء العربية ذات الثقل. الأسماء الكبيرة تلك بدأت بحكم السن تخلي المساحة لغيرها. هناك محاولات جادة أحيانًا للإبقاء على صلتهم بالقسم، واختيار طاقات شابة لابتعاثهم وتأهيلهم، وبذل الجهد في التعاقد مع كفاءات عربية ممتازة. لكن المسألة كما يبدو أكبر من مجرد الإرادة والنية الحسنة. لابد من توافر سياق بشروط إبداعية تتيح تولد عبقريات فذة ومسؤولة. جامعة الإمام تمتلك -غالبًا- كفاءات ممّن اختصت في الدراسات اللغوية بحكم الدراسة للمرحلتين المتوسطة والثانوية في المعاهد العلمية. هؤلاء الطلاب لم يقذفوا لدراسة اللغة والأدب بسبب ضعف معدلاتهم. طبعًا هيمن على الدراسة اللغوية والأدبية في جامعة الإمام التقليد، ولكن الزمن يتغير والتجاوب مع العصر لا بد أن يتولَّد عند كل كفاءة فكرية مسؤولة، وهكذا بدأت بعض الأسماء تتميز، وأخذت الجامعة تضم أسماء متعاقدين بمستويات متميّزة معرفيًا، وسيكون القادم أفضل -بإذن الله-. استهلاك بلا حدود * كيف تقرأ المشهد النقدي السعودي بالنظر إلى مثيله عربيًّا وعالميًّا؟ الإنجازات المعرفية والعلمية لا وطن لها، وليس عيبًا أن يفيد الناقد أو الباحث من المناهج والنظريات والأفكار المختلفة. فَقْرُنا في الإبداع النظري والمنهجي لا ينفصل عن طابعنا الاستهلاكي في شؤون حياتنا، فنحن عالة على بلدان الصناعة والتقنية من الإبرة إلى الطائرة، ومن لقاح شلل الأطفال إلى الكومبيوتر. السؤال عن هذا الفقر هو سؤال النهضة العربية منذ بدايات العصر الحديث. والإجابة عنه متصلة بثقافتنا الاجتماعية والتعليمية التي تحاصر الإبداع والفردية، وترتاب في الفكر النظري وتكرس التقليد. كم استهلكت منا معارك التصدي للجديد بأشكاله المختلفة.. وعلى رغم ذلك، فالمشهد النقدي السعودي حاليًا يعيش حِراكًا قويًا ومبشرًا. ما تزال الأسئلة النقدية أحيانًا واقعة في شرك التبرير لمشروعيتها، وما تزال مأسورة أحيانًا إلى تخوفات مختلفة، لكننا خصوصًا إذا أخذنا النقد بمفهومه الاجتماعي والثقافي نشهد أسماء نقدية على قدر عال من الجرأة والمعرفة. تاريخ الأخطاء * الاختلاف في التشخيص النظري للأفكار النقدية بين ناقد وآخر.. إلى أي منحى نستطيع توجيهه؟ الاختلاف قيمة إثراء. الوعي بقيمة الاختلاف والتعدد وعي منهجي. لا أحد يحتكر الصواب ما دام الفاعل المعرفي بشرًا، وتاريخ العلم هو تاريخ أخطائه لا صوابه. لذلك تغدو كل قراءة جديدة، أي كل تفسير أو تفكير أو مفهوم، مشروعة بقدر وعيها المنهجي والنظري أولاً، فلا أحد يعيد ابتكار العجلة. أمّا الهوى والانحياز فهو عامل الذاتية الذي تشرطه المنهجية من دون أن تمحوه، وبذلك تجعله مُقْنِعًا، فبلا ذاتية لا يصبح للناقد حماس ولا رغبة، والنشاط الإنساني ليس فعلاً آليًا بل هو نتاج ذات بكل ما للذات من صفات الرغبة والهوى التي تجعلها ذاتًا. خسارة “معجب” * ما حدود وجهة نظرك فيما توصل إليه الدكتور معجب الزهراني في نظرته النقدية للمشهد الأدبي المحلي وتفسيراته لواقع النص الأدبي بمدرسة مغايرة للمدرسة التراثية الأصيلة.. وإلى أي مدرسة ترجعها؟ لا أتذكر أنني قلت شيئًا تجاه جهد الصديق الدكتور معجب. وربما فهمتَ شيئًا عامًا من هذا القبيل من خلال تعليقي الشفهي على محاضرته القيمة في نادي الباحة التي تناول فيها جماليات الفنون الشعبية. فقد انتهى الدكتور إلى ملمح مهم حين قرن بين غياب الغناء الشعبي وغياب العمل، كأنما العمل يفرز الحاجة إلى الغناء، وأنا أوافقه على هذا تمامًا، لكنه انتهى إلى ذلك بخلاف ما ابتدأ به من مدخل نظري بدا فيه التجزيء للإنسان من خلال الشجرة التي رسمت في الفلسفة القديمة للمعرفة الإنسانية، فالعمل والتدين والفن فيها وظائف متفاصلة، وهذا يخالف الرؤية إلى الإنسان بوصفه كلاً. ولم ينكر الدكتور ذلك في إجابته حيث ذكر أن القصد من ذلك التوضيح المدرسي. الدكتور معجب -بالمناسبة- طاقة ثقافية خلّاقة، وهو مكتنز بإمكانيات نفسية وفكرية قادرة على الإثراء المعرفي، لكنني أزعم أننا خسرناه مؤلفًا لأسباب ربما أقول إنه نفسه من يُسْأل عنها. يتبع