في البدء، سأزعم أنني مطلع بشكل واسع على تجربة الشاعر البحريني قاسم حداد الإبداعية شعراً ونثراً، وسأعترف أنني أحبه شاعراً وإنساناً، وإن لم أكن محظوظاً بما يكفي لأعرفه وأقترب منه كثيراً كإنسان بقدر اقترابي من عوالمه كشاعر. قاسم حداد، ومثله ليس بحاجة لشهادة من هو مثلي، من أبرز شعراء الخليج والشعراء العرب الذين قدموا تجربة إبداعية غنية متواصلة عبر ما يزيد على العقود الأربعة من السنوات، وهو ما فتئ في عقده السابع يخوض تجارب كتابية طليعية وبطاقة يحسده عليها كثير من الشعراء الشباب. ربما تكون هذه المقدمة القصيرة ضرورية، وربما لا تكون كذلك، قبل أن أشرع في طرح الفكرة الأساسية من هذه المقالة وهي مناقشة بعض ما جاء في مقالته المفاجئة بالنسبة لي ولكثيرين غيري التي نشرها على صفحات «الشرق» عبر ثلاث حلقات، والتي حملت عنواناً لا يخلو من الاستفزاز واللوم غير المباشر والتقريع وهو «أيها القارئ..هل أنت هناك حقاً؟» لقد بدا قاسم على غير عادته غاضباً وقاسياً في هذه المقالة، وكانت نبرة الكتابة عنده هذه المرة تختلف عما اعتاده القارئ منه فيما يكتبه من مقالات يغلب عليه الحس التأملي الهادئ. يرى قاسم بعد تجربته الطويلة في الكتابة أن من حقه أن «يجابه» القارئ بمعناه الأشمل والعام، ويقول إنه قد كتب جلَّ قصائده «لقراء لا يحسنون القراءة، ولا يتمتعون بالدرجة الكافية من الوعي والحساسية الشعرية والمعرفة الثقافية اللازمة لقارئ الشعر»، ولكي لا يقطع الشعرة التي تربط ما بينه وبينهم بشكل نهائي، يستدرك بالقول إن الحديث إنما هو حول «جانب منهم على الأغلب»، وإن عاد في قسم آخر من مقالته إلى توصيفهم بقوله إنهم «يتميزون بالكسل الذهني»، فهم «ليسوا سوى كتلة ذاوية من زيفٍ وادعاءٍ يفرغان الشعرَ من جوهره، وينزعان الشاعر من طبيعته». ما استوعبته من مقالة قاسم المطولة أنه يسطر «هجائية» في تعرية القارئ الكسول ذهنياً لناحيتين: الأولى هي ضعف أو نقص الوعي الثقافي والجمالي الذي يتمتع به بحيث لا يعود بوسعه أن يتواصل مع قصيدة الشاعر الحديثة ويفهم مغازيها، رغم إقراره بأن الفهم لم يعد مناسبا لتوصيف العلاقة الفعالة بين الشعر والآخر إلا بشكل مجازي. وهنا سأورد اقتباساً من مقالة لقاسم في كتابه البديع (ليس بهذا الشكل ولا بأي شكل آخر) يقول فيها: «إن المعنى هو ما يشعر به القارئ ويعيد خلقه، وليس ما يقترحه الشاعر كإشارات» (ص 109). أما الناحية الأخرى فهي ميل هذا القارئ الموهوم إلى الارتباط والتعلق بشاعرٍ ما لأسباب أيديولوجية سياسية في الأغلب، فإذا ما تغير موقف الشاعر السياسي، كما يفهم ذلك القارئ، تغير الموقف الذي يتخذه القارئ إزاءه. وهنا يقرّع قاسم «القارئ المفترض» بالقول إن إعجاب القارئ بتجربة شاعرٍ ما «يستدعي معرفة كافية لطبيعة بنيته الفكرية ورؤياه الحياتية»، بحيث « يترتب على ذلك قدرة «هذا» القارئ على توقع مواقف «هذا» الشاعر إزاء القضايا الفكرية والسياسية التي تزخر بها الحياة اليومية». ولكن هل ذلك صحيح بالضرورة. لديّ كثير من الشك حول ذلك، ولعل لي عودة لوصل ما انقطع من حبل الحديث بسبب مساحة الزاوية.