للرائحة قدرة مذهلة على العودة بالإنسان إلى أصقاع بعيدة في الذاكرة، وتعذوذب هذه الذكرى كلما كانت الرائحة زكية الشذا، حيث تتسلل بنا عبر الأزمنة موقظة الحنين إلى تلك المشاهد الفرائحية المتمادية في الصبا. عندما كنا صغاراً لم يكن الزعفران من البهارات الشائعة على موائد البسطاء؛ وذلك إما لتعسر الرزق أو لغياب المعيل في أحيان أخرى. ولكنه كان يحل ضيفاً ذعذاعاً بالعبق المنعش عن طريق الإهداءات التي تسوقها الأقدار الجميلة. كان الزعفران في تلك الأيام زعفراناً حقيقياً لم تتدخل فيه حيل الغش ولم تتناوله أيدي النشالين؛ لذا فقد كانت رائحته نفاذة مدهشة، وارتشافه من بواعث الأُنس والابتهاج. وكان المخزون البسيط منه في أي منزل لا يخرج إلا بحلول ضيف ذي مكانة اجتماعية مرموقة، أو لصديق نبادله أعلى درجات الألفة والوداد؛ فالزعفران رديف الحب والعطاء والمناسبات السارة. ألم تكن خيوطه قرينة الذهب قيمةً وإبهاراً عندما كانت تتساوى تلك الخيوط القانية الحمرة بجرامات الأصفر الرنان؟ أما اليوم فلا تستطيع أن تجزم ما إذا كان المنتج الذي ترغب في شرائه زعفراناً أم لا؟ فقد تعددت طرق الغش ومالت تلك الزهرة الجميلة إلى الخفوت ووهن ارتباطها بالفرح. تشتري علبة مغلقة من الزعفران فإذا أخضعتها للفحص تكتشف مدى الإجرام الذي يمارسه بعضهم ضد طيوب الجمال، فمنهم من يصنع لك من صدور الدجاج زعفراناً ومنهم من يقتنصك بخيوط الذرة الرقيقة ومنهم من يبيعك العصفر على أنه زعفران، ولعل آخر وسائل الغش هي بيع طحين الكركم على أنه بودرة زعفران. وكل ما يفعله الغشاشون هو إضافة الصبغة والنكهة الصناعية، بل ربما باعك بعضهم زعفراناً حقيقياً ولكن بعد أن أنقعه بالماء وأخذ خلاصته الثمينة. لو أن كلا منا اجتهد في فحص السلعة بعد الشراء وأعادها للبائع عند اكتشاف زيفها لما تجرأ الباعة على القبول بكل ما يأتي به الموزعون. إنني أقترح وجود مختبرات في كل مدينة لفحص جودة الزعفران وغيره من المأكولات؛ للحد من انتشار الأطعمة المزيفة. من يدري..؟ ربما تعود الثقة في الزعفران ويصبح العطر المفضل في الأعراس والحفلات كما قال القائل: إنما الزعفرانُ عطرُ العذارى *** ومدادُ الدواةِ عطر الرجالِ