نزلت في ضيافة صديق عتيق لي، قلت له: تذكرني بالآية من سورة الأنفال. فنحن الاثنان مهاجران في سبيل الله، والله يقول آمنوا وهاجروا وجاهدوا، ويختمها بصنفين: آووا ونصروا، وأنت من يؤويني في شتاتي الذي أعيشه حالياً بين ثلاث قارات. في الليل نمت ثم قفز إلى ذهني ما ذا لو مات أحدنا؟ هل عندنا هواتف للاتصال؟ في الصباح قلت له أخي الكريم ابن الكريم. أنت تعرف رقم هاتف بناتي في كندا؛ فإن أنا مت أخبرهن عن وفاتي، والله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، وما أطلبه منك دفني حيث أموت، وقد كتبت وصيتي في مصنف الوثائق عندي، ولكن ماذا عنك يا صاحبي؟ أخذ بيدي وأدخلني غرفة نومه، ثم قال انظر إلى الحائط؟ تأملت فوجدت وصية واضحة مكتوبة بالكمبيوتر فيها سبع فقرات عن كامل الوصية، وفي نهايتها في الفقرة الأخيرة ثلاثة أرقام للاتصال بأخته وزوجته وصهره. قرأت الوصية بصوت عال وقلت له هل تسمح لي بتصويرها؟ اعتذر وقال هي خصوصية، قلت معك حق ولكن سوف أصور فقط أرقام الهواتف على فرض أن الموت فاجأك، وهو يحيط بنا في كل لحظة. لم أملك نفسي من التأثر وهو يذرف دموع عينيه، وأنا أتلو تلك الوصية المتواضعة المعترفة الخاشعة المقرة بالموت ومعنى الحياة والمصير. قال صديقي في وصيته إنه يعرف أن ذنوبه كثيرة ولكنه متفائل برب رحيم كتب على نفسه الرحمة. قال في الفقرة السادسة إنه يأمل من يريد دفنه أن يتأكد من موته قبل الدفن، نحن الأطباء نعرف عن ظاهرة الموت السطحي، أو ما يسمّى كأنه ميت وما هو بميت، وكثير هي حالات من دفنوا أحياء ويظن الناس أنهم أموات. قال في وصيته أنه يطلب أن يدفن حيث مات، وبأقل التكاليف والمراسيم؛ فلم يبق من البدن روح. ذكر صديقي العتيق هذا أنه ترك في جيبه مبلغاً من المال يكفي تكاليف الدفن؛ فإن تطلب الأمر أكثر فهناك مبلغ إضافي خلف ورقة الوصية. في النهاية اعتذر صديقي لمن سيحملونه على أكتافهم لأن ذلك سيرهقهم، لم أتمالك دموعي ولا هو أمام هذه الوصية المؤثرة، التي يجب أن تكون نبراساً لكل من يعرف أن الموت أقرب من شراك نعله.