حسين عيسى المحروس، قاصٌّ بحريني، يجترح القصة القصيرة والرواية، وقد أصدر مجموعته الموسومة بضريح الماء منذ أمد، وفي تجربة الكتابة عند حسين المحروس نتحسس بساطة التركيب اللغوي ورشاقة انتقال الحدث، وربما كانت طبيعة القصة القصيرة التي تفرض ذلك القصر النسبي على بنية الحكاية ومركزية الحدث التي تجتاح مجموعته القصصية، بينما كان القاص هو الراوي في كثير من الأحيان وإن بدا إلى حد كبير كأنه يستعين بشخصية ما كفاطمة في قصة «فاضحة»، لكنه ينجح في نقل الراوي من القاص إلى شخصية أخرى كما في قصتي «تلميذة، والبقاء في طفلة». وقصصه لا تخلو من النقد الاجتماعي الشديد، وإن كان حسين المحروس في لعبته الفنية يترك فاصلة طويلة نسبياً للمتلقي لاستنتاج ما يريده الكاتب، بدل أن يعطيه مراده مباشرة، وذلك عبر البناء الدرامي للحدث، الذي يرتكز على الموقف ونقيضه «الأمل في تحقق الوفر بعد زيارة الأولياء، وصدمة طرد البطل وعائلته من المنزل»، و«الأمل في أن تتغلب قدسية الشجرة على من يحاول اقتلاعها، واستطالة الحدث تشير إلى استطالة الأمل حتى تستسلم بعدها الشجرة للجرافة، تلك الشجرة التي تبقى مزروعة في جذور الأمل التي لا تموت»، ونتحسس ذلك اللعب على التناقض بين المأمول والواقع الذي يوجد المفارقة في قصتي «العتائر، والأسدية» الذي من خلاله يتطور الحس الدرامي. إن كل تلك الاستلهامات التي تبرز في قصص حسين المحروس إنما تنبع من التعامل مع الموروث الشعبي، وبالتالي هناك وعي ذو اتجاه محدد بطبيعة التراث العربي في جزائر البحرين، تلك الموروثات التي تميزت بالتماعتها من خلال الذاكرة الحية، لصبي يجوب الأحياء القديمة للمنامة أو أي من القرى المجاورة، وما زالت تلك الصور تنبض في خلفية الصورة تحشد خلفها ألق ما نحس بحميميَّته ولا نكاد نلمسه. على الرغم من تلك اللحظات الوامضة، إلا أنه يتعامل مع الموروث من خلال المستوى الشعبي، فقصة الحمامة، تثيرنا باعتبارها تشير إلى ذلك الطائر الذي دخل التراث الإنساني، لتصبح الحمامة البيضاء تعبيراً عن السلام، ولعل الاستبشار بالحمامة نابع من قصة الطوفان، ذلك أن الحمامة عادت بغصن الزيتون تعبيراً وبشارة عن نهاية الطوفان، لكن الحمامة دخلت التراث العربي بتناقضات كثيرة، باعتبارها دليلاً على اتخاذ وسائل من أجل ممارسة «الفجور» كما تشير كتابات الجاحظ في مدونته الخطيرة «الحيوان»، ولعلنا لا نزال نتلمس اعتقاداً سارياً في المستوى الشعبي من أهمية تربية الحمام لإغواء الفتيان. ولكن ذلك التعبير لم يغادر تلك الشحنات الدلالية التي تميل بالحمامة في تبيئتها المحلية إلى أن تكون عنصر خير وبركة فهي «بيضاء من كل سوء» وتحمل العبارة السابقة إشارة واضحة إلى معجزة إخراج اليد، وإن كان الانحراف التركيبي «من كل» بدل «من غير» يحمل في مضمونه ربطاً بالواقع المعاش، وما التساؤل الذي يذهب في ذات الاتجاه إلى ليدلِّل على ما نقول «هل أنت حمامة نوح / أنا من ولد نوح / أوصاني نوح بك» وللحمامة البيضاء ليس في نهاية التكوين الفني إلا وسيلة لاكتشاف تلك الممارسات الخفية التي تتعلق بالجنس المحرم كما يظهر بأشكاله المختلفة التي تمارس في الخفاء داخل المجتمع الذي يعاني أهله الكبت بأنواعه المختلفة «صرخت العجوز أم سلمان: (كشفت سترنا يا ولد صفية).. ها.. سترهم.. ومن لا يعرف بناتك الثلاث في الحي؟.. (../..) أمسكني عبود جاسم وكاد يرميني إلى الأسفل فحلف له: والله العظيم لن أخبر أحداً فتركني.. أف كم هي كريهة من غير حجاب»، لكن القصة ما زالت تكتنز في داخلها مدلولات أكثر عمقاً للمتأمل: هل الحمامة فعلاً حمامة أم هي استعارة للمرأة «هل أنت حمامة نوح / أنا من ولد نوح / أوصاني نوح بك.. كانت تنظر في عيني وكأنها فطنت كلامي يا الله إني ألمسها.. ألمسها.. لم تمانع.. خفضت لي جناحها الأبيض، وليس التقبيل إلا للحمام والإنسان». ثمة إطلاق لدوائر الدهشة والتفكير في خاتمة القصة التي أنهت الحكاية كاملة «وفي الصبح وجدتها وكل الحمام الهارب فوق سطح منزلي»، هل انتهت أدوار صائد الحمام؟ هل عادت الحمامة البيضاء بكل السرب الضال إلى مكانه؟ لماذا هذا الأفق المغلق للحكاية؟؟؟. في قصة ضريح الماء التي كانت علماً على المجموعة، تتمثل ظاهرة معادلة الواقع بالأسطورة، تلك الأسطورة التي حفظت لنا تقاليد قذف الأضحية التي عادة ما يزرعها الأطفال من خلال غرز بذور الشعير في سلال مصنوعة من الخوص، موضوع فيها بعض السماد والتربة، وتتم العناية بها حتى إذا ما نبتت البذور واخضرت في بكارتها الأولى يخرج بها الصبية إلى البحر ويرمونها فيه، ضمن اعتقاد سائد لحاجة البحر أن يأخذ من الناس حتى يظل يعطيهم من خيراته الكثار، وهم يرمونها حتى يقنع البحر وجنِّيَّاته وكائناته المخيفة من الغنيمة بما يُعطَى، وليكفَّ عن ابتلاع من نحب، الذين يذهبون إليه ولا يعودون. هكذا هي ذاكرة الكتابة التي يتألم فيها الكاتب مع كل أعضاء المجتمع في البحرين والخليج وكل العرب، الذين صدمتهم حادثة سقوط طائرة طيران الخليج في البحر قرب سواحل المحرق، تلك الأماكن الحبيبة التي استقبلتهم في ضريح الماء، ولم يعودوا، هكذا أخذ البحر منا كثيراً من الأحبة بالرغم مما قلَّدناه أضاحينا، لكنه أبى إلا أن يقلِّدنا قلائد من فلذات أكبادنا وأحبتنا الذين مضوا فجأة، هل هم أهل النجوم الذين نزلوا ليشربوا البحر رشفاً؟ كل القبور لها شاهدان وضريح الماء له كل سواحل الخليج شواهد، اختلط ماء الدمع بماء الخليج، لا فرق، أمواج البحر تتقدم نحو الساحل بهدوء.. تقبل قدمي الأمهات الثكالى كأنها تقدم اعتذاراتها من فعل البشر. «ولما جاء العصر هممت أن أغادر البحر لولا أني سمعت أصوات غناء أطفال.. أدرت وجهي نحو القرية.. إنهم أطفال القرية قادمون نحو البحر.. نحو ضريح الماء يحملون الأضاحي.. اقتربوا.. تدافعوا نحو الماء.. إني زرعت أضحيتي مشموماً هذا العيد (قالت طفلة) أفردوا سواعدهم الصغيرة.. بدأوا يرمون الأضاحي..(1).. (2).. (100).. (143) أضحية.. الأطفال زرعوا ضريح الماء مشموماً وضحكات..» هي الضحكات راحت تسرح أمواج الخليج تهدهد فيه حزناً عميقاً غسل الفضاء ذات مرة وانطفأ.