يتعايش النَّاسُ في مجتمعاتهم فتنشأ بينهم علاقاتٌ اجتماعيَّة واقتصاديَّة مستندةً على الواجبات والحقوق وقائمةً على المصالح المتبادلة، مصالح قد تتداخل وربَّما تشابكتْ تشابكَ تفاعل وتعامل؛ نتيجة اختلافاتٍ تفسيريَّة للحقوق، أو اختلالات تسييريَّة للواجبات؛ لتنشأ خصوماتٌ فنزاعات، فيلجأ بعض أولئك لفضِّ منازعاتهم إلى الجهات القضائيَّة في مجتمعاتهم إن لم يتمكَّنوا من فكِّ هذا التشابك وفصل ذلك التداخل فيما بينهم أو من خلال وسطاء صلح أو تحكيم. ولو نظر معظم المتخاصمين لنزاعاتهم وخصوماتهم بتعقُّلٍ وعدلٍ ينشدان منهما الحقَّ فقط دون أن تدفعهم أحاسيس بالظلم بانتهاك للحقوق يحرِّكها شعورٌ داخليٌّ يعكس خصائص نفسيَّة سلبيَّة تنطلق من محاولاتهم الانتصار للذات بعيداً من معادلة الحقوق والواجبات، لو نظر أولئك لتبيَّنوا أنَّ خصوماتهم ونزاعاتهم في معظمها لا تستحقُّ من الزمن مجرَّد الوقوف عندها، فضلاً عن تحويلها لقضايا تظلُّ تفعل فعلَها النفسيَّ فيهم، وكلَّما تطاول الزمنُ بها كلَّما اتَّسعت فتعقَّدت بفعل تقليبها النفسيِّ آناء الليل والنهار على وجوهٍ تختلف يوماً بعد يوم فتتراكم مع الأيَّام لتعطي للخصومات أسباباً ودوافعَ متولِّدة نفسيّاً من معايشتها بعيدة عن واقعها المنطلقة ابتداءً منه وزمنها المتكوِّنة مساراً فيه. اختلافات فخصومات فادِّعاءات بانتهاكاتٍ للحقوق أو بتجاوزات بالواجبات أو قصور فيها أو باعتداءاتٍ على المصالح، تحدث في الأسر بين أفرادها أزواجاً في تعايشهم حقوقاً وواجبات أثناء الحياة الزوجيَّة أو بعد انتهائها انفصالاً وطلاقاً وما يتبعه حضانةً ونفقة، وبين المتبايعين أراضيَ وعقارات ومساهمات وغيرها، وبين الشركاء أنصبةً وتوزيع أعمال وأرباح، وبين الورثة اقتساماً لميراث أو تأجيلاً لاقتسامه، وبين طالبي الخدمات ومقدِّميها مقاولات أو صيانات أو تصنيعات يطرأ اختلافات فيما بينهم لاختلالات في مواصفاتها أو بتنفيذها وفق شروط عقودها، وهكذا في كلِّ جوانب الحياة التي تتماس مصالح الأفراد فيها، أو تنشأ علاقات بينهم لتفعيلها وتسييرها، وقد يكون معظم ذلك وهماً أو تصوُّراً خاطئاً أو استقراءً غير صحيح. ويلجأ معظم أولئك للجهات القضائيَّة لتنصفهم من خصومهم معيدةً إليهم حقوقهم أو مرتِّبةً واجبات الآخرين تجاههم، ويستعين بعضهم بمحامين فتتعدَّدُ جلسات التحاكم ويمتدُّ الزمنُ فيما بينها كجزء من أساليب بعض المحامين لزيادة مردودهم، أو لكثرة القضايا في الجهات القضائيَّة الناظرة فيها في ظلِّ قلَّة قضاتها، وينتهي معظم هذه القضايا وخصوماتها بمصالحة يتنازل أطرافها عن بعض حقوقهم تجاه بعضهم، أو بتقريب وجهات النظر بينهم لتخفيف الشعور بالظلم، أو بحفظ بعضها لعدم ظهور مبرِّرات الدعاوى والتداعي فيها؛ وإذْ ينادى العقلاء إلى التنازل عن الحقوق من أطراف لأخرى أو للتسامح فيما بينهم من باب الصلح؛ فإنَّ ذلك مطلبٌ إسلاميٌّ يحقِّق خيراً كثيراً في التعايش والتعامل والعلاقات بين أفراد المجتمع المختلفين والمتخاصمين، بل غالباً ما يدعو القضاة ناظرو تلك الخصومات إليها قبل التَّداعي والتحاكم فيها. فالصلح والتحكيم لحلِّ الخصومات وتسوية المنازعات مساران مساندان للقضاء الشرعي، إذ يتيحان إمكانية مباشرة الفصل فيها وتسويتها من قِبل أفراد لا يحسبون من السلك القضائي، فالتحكيم هو عرض خلاف أو نزاع معين بين أطرافه على هيئة معيَّنة لتحكيمه وفق مقتضى العدل وشروط يحددونها للفصل بينهم بقرار تحكيميٍّ محايدٍ وبعيدٍ عن التحيز، فيما الصلح هو دور ينهض به عقلاء وحكماء بين متنازعين لفضِّ موقف النزاع وإنهاء حالة الخصومة، وعلى هذا يفرَّق بين الصلح والتحكيم، فالصلح عقد رضائي يحسم بموجبه طرفاه أو وسيط أو أكثر بينهما ساعين إلى ذلك أو مطلوبين لذلك نزاعاً قائماً أو متوقعاً، يتنازل كل طرف عن بعض مطالباته، وتكون نتائجه معلومة لدى الطرفين قبل توقيعه، بخلاف التحكيم الذي يبدأ بالتراضي على التحكيم لكنَّ نتائجه غير معلومة لطرفي النزاع، والصلح يعدُّ عملاً توفيقياً يكفي فيه ما يدل عليه، أما التحكيم فهو عمل قضائي له إجراءاته شأنه شأن التقاضي في المحاكم، وبالتالي فهما يختلفان في الإجراءات وفي النتائج. حَّث اللهُ عباده المسلمين على الصلح فقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، النساء آية 128، وقال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاح بين الناسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}، النساء آية 114، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّه وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، الأنفال آية 1، كما حثَّهم رسولُ الله عليه الصلاة والسلام فقال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، قال: وفساد ذات البين هي الحالقةُ»، وقال ابن تيميَّة -رحمه الله- في الصلح والإصلاح: «ومن هنا يتبين أن الحكم بالصلح أحسن من الحكم بالفصل المرِّ لأنَّهما اشتركا في دفع الخصومة وامتاز ذلك بصلاح ذات البين مع ترك أحدهما لحقِّه وامتاز الآخر بأخذ المستحقِّ حقَّه مع ضغائن، فتلك المصلحة أكمل لاسيما إن كان الحقُّ إنَّما هو في الظاهر وقد يكون الباطن بخلافه». إنَّ القلوب متى صفت وتآلفت، كوَّنتْ مجتمعاً سليماً متواداً متناصراً متكافلاً يحبُّ بعضه لبعضه الخير، ويتجلَّى ذلك بالسعي إلى الصلح عند أي شقاق أو خلاف يبدر، فأفضل الأعمال وأنفعها السعي للصلح بين الناس وإبعادهم عن الخصومات والتداعي، فالصلح ينهي النزاعات القائمة ويعيد للنفوس صفاءها وتراضيها بعد شقاقها وتعاديها، ولذلك وجَّه الفاروق -رضي الله عنه- بقوله: «ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن»، وفي الصلح توفير لجهود القضاة والخصوم، وإنهاء للنزاع بيسر، فلا حاجة فيه لبيِّنات ولا لشهود ولا لأيمان، إذْ ربَّما توصَّل المدَّعي إلى حقه أمام القاضي عن طريق البينة فكان سبباً في استمرار العداوة والمشاقة بين الطرفين، لذلك فالصلح يحقِّق مصالح، ويدرأ النزاع والشقاق، فلْتَتَضَافَر الجهود لجعله منهجاً لإنهاء الخلافات والنزاعات والخصومات بطريق مباشر بين المختلفين أو عن طريق جهود المصلحين، أو حتى عن طريق القاضي نفسه وفق ضوابطه القضائيَّة.