تعتبر تركيا قوة إقليمية مؤثرة تجيد لعب الأدوار المركبة والمتعددة، مع معظم دول منطقة الشرق الأوسط بلا استثناء، وطبيعي أن يسعي رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلي تعزيز وجود بلاده في العالم العربي للاستفادة من التحولات التي يشهدها الشرق الأوسط، وجني أكبر قدر من المكاسب التي جلبتها رياح الثورات العربية في المنطقة والعالم، وهو ما يعني في المحصلة النهائية تخلي تركيا “ما بعد الكمالية” أو بالأحري “تركيا الأردوغانية” عن إستراتيجية “صفر مشاكل” مع دول الجوار خاصة القوي الإقليمية الأخري في المنطقة، وربما كانت “الأزمة السورية” الحالية هي مفتاح فهم التحولات الإقليمية المقبلة، حيث ظهر في العلن -لأول مرة- التنافس التركي – الإيراني الإقليمي الذي يتطور بسرعة وينذر بصدام وشيك، نتيجة لتعارض مواقف كل من أنقرةوطهران حيال الأحداث التي تمر بها سورية والدول العربية المطلة علي البحر المتوسط. تركيا وإيران وأدت الأزمة السورية إلى انفصام عرى التنسيق (الإستراتيجي) بين تركيا و إيران خاصة في مناطق نفوذ كل منهما، فقد ظلت الجارتان القويتان تحافظان علي مصالحهما المشتركة في حفظ الأمن الإقليمي بما في ذلك أمن موارد الطاقة، وقبل عام واحد من الثورات العربية 2011، وكان رئيس الوزراء التركي أردوغان لا يتردد في كل زيارة لطهران من التأكيد أمام وسائل الإعلام: “أن تركيا وإيران هما عماد الاستقرار في الشرق الأوسط، وأن تركيا لا يقلقها البرنامج النووي الإيراني”، بل إن إيران لم تتوصل إلي اتفاق بشأن ملفها النووي إلا مع تركيا بمساعدة البرازيل، حيث أبرمت صفقة يتم بموجبها نقل ألف و200 كيلو جرام من اليورانيوم الإيراني المنخفض التخصيب إلي تركيا، في المقابل كان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يردد دائما بأنه: “لا تستطيع أي قوة غير (إيران وتركيا) ملء الفراغ في الشرق الأوسط، وصياغة نظام إقليمي جديد؟”. الأب والابن وجاء انقلاب تركيا علي نظام الأسد (الأب والابن)، تحولا جذريا في العلاقات السياسية والإستراتيجية مع إيران وإسرائيل وروسيا، بعد أن كانت تركيا على علاقة قوية مع النظام السوري، حيث أمسك “أردوغان” بواحد من أشد الملفات وأكثرها تعقيدا في الشرق الأوسط وهو ملف السلام السوري – الإسرائيلي، ولعب دور الوسيط باقتدار، ولم يتردد لحظة في الانقلاب علي نظام الأسد، حيث تحولت أنقرة في لمح البصر من صديقة لبشار الأسد إلى أكثر وأشد الأطراف الدولية نقدا له ولنظامه، بل وراحت تحتضن المعارضين السوريين على أراضيها. وهو ما دفع العديد من المحللين السياسيين إلي التأطيد علي أن: سقوط النظام السوري تحديداً يؤدي بالضرورة إلي استعادة تركيا نفوذها المفقود في سورية، التي بدأت -في عهد أردوغان- تتحول إلى دولة عظمى تراودها أحلام الخلافة الإسلامية، خاصة مع صعود الإسلاميين في كل من تونس وليبيا ومصر، وقد تستعيد بالتدريج أمجاد الامبراطورية العثمانية القديمة. طموحات تركيا وتصطدم طموحات تركيا، أيضا مع الدب الروسي الذي تساوره الشكوك القديمة والمتجددة مع صعود تركيا كقوة إقليمية منافسة، لأن سواحل البحر الأسود الروسية ابتداء من مدينتي “سوتشي” و”عنابا” وما بعدهما، كانت في الماضي تحت السيادة التركية، ولن تنسي تركيا ذلك أبدا. وتملك تركيا اليوم ثاني أكبر جيش في منظمة حلف شمال الأطلنطي “الناتو”، وأهم قاعدة عسكرية في البحر المتوسط لعمليات الولاياتالمتحدة في أفغانستان، فضلا عن حدودها الممتدة مع إيران وسورية والعراق. كما أن نشر تركيا صواريخ هوك التي تعتبر بمثابة المظلة الواقية لحماية منطقة الشرق الأوسط بالقرب من قرية قلعة التابعة لمدينة هطاى الحدودية مع سورية، قد تتسبب في أزمة من نوع آخر مع إسرائيل، علي الرغم من أن هذه الخطوة جاءت ردا -حسب صحيفة “ميلليت” التركية- على نشر سورية بطاريات صواريخ سكود الروسية الصنع فى “قامشلى وعين دور” وهى مناطق حدودية مع تركيا. سقوط نظام الأسد ويمكن أن يشكل سقوط نظام الأسد تطورا إيجابيا (جزئيا) بالنسبة لإسرائيل، إذا أدى ذلك إلى قطع علاقات سورية مع كل من إيران وحزب الله وحركة حماس، فقد حافظ الأسد (الأب والابن) علي موقفه المعادي في الظاهر لإسرائيل في نفس الوقت الذي ضمن للإسرائيليين”هدوء الحدود” لسنوات طويلة! وهو ما كان المطلوب إثباته بالنسبة لإسرائيل وأمريكا، بيد أن المخاوف من سقوط النظام السوري وآلية هذا السقوط وكيفية تنفيذها تتخذ أبعادا متناقضة اليوم رغم الاتفاق علي الهدف. وتتمثل هذه المخاوف بالنسبة لإسرائيل في وقوع الأسلحة التي يمتلكها، بما فيها الصواريخ المضادة للطائرات في أيدي حزب الله وغيره من المنظمات الإسلامية الراديكالية، وهو ما يجعلها تلح علي ضرب إيران أولا، بينما تمثل الإطاحة بنظام الأسد أولا -الحليف القوي لنظام الملالي- قبل ضرب إيران، أمرا في غاية الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة وتركيا ودول مجلس التعاون الخليجي. موازنة النفوذ وتعتمد الولاياتالمتحدة على تركيا في موازنة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وبما أن المواجهة الأمريكية المباشرة مع إيران متعذرة الآن، تبرز تركيا كمرشح للعب دور الحصان الأمريكي الرابح في تشديد الخناق على إيران، والحدِّ من نفوذها الإقليمي، بإقامة قوس تحالف وثيق يمتد من أنقرة إلى دول شمال إفريقيا وصولاً إلى الأردن ودول مجلس التعاون الخليجي. فقد خسرت الولاياتالمتحدة نفوذها في العراق لمصلحة “إيران”، التي حسمت موقع نفوذها السياسي والاقتصادي بعد انسحاب القوات المسلحة الأمريكية، في البحرين والكويت واليمن، بالإضافة إلي “حزب الله” في لبنان و”حماس” في فلسطين، وهو ما يؤمن لها -وبدرجات متفاوتة- قوة تأثير كبيرة وأوراق ضغط تساعدها علي التمدد في المنطقة. في المقابل فإن سقوط النظام السوري يؤدي حتما إلي خسارة طهران نفوذها في سورية، وقطع الجسر الإستراتيجي الواصل بينها وبين “حزب الله” و”حماس” . الأهم من ذلك هو أن المشرق العربي سيشهد -حسب (بول سالم) مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط- تحولا في القوة هذا العام 2012، سيغير نمط العلاقات التي سادت في السنوات السابقة، لأن قطع الحبل السري بين سورية وإيران قد يجعلها أقرب إلي تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي. التنسيق الإستراتيجي ويعد التنسيق الإستراتيجي بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، وليس بين تركيا وإيران، هو أحد أهم تحولات القوة في الشرق الأوسط الجديد والعالم، حيث يمثل الخليج العربي بالنسبة لتركيا الصاعدة بسرعة الصاروخ (قلب) العمق الإستراتيجي، فما (ينقص) تركيا كقوة إقليمية يمكن أن (تفوق) القوي الإقليمية الأخري مجتمعة، ويعجل بانضمامها (فورا) إلي الاتحاد الأوروبي هو (العمق الإستراتيحي)، وهو عنوان كتاب مهم لمهندس السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية الدكتور أحمد داود أوغلو، وفكرته الأساسية: أن التاريخ والجغرافيا يمثلان العنصرين الأساسيين اللذين تبنى عليهما الإستراتيجية. وهما ثابتان، في حين أن المتغير الذي يجب العمل عليه هو كيفية قراءتهما. وبما أن تركيا انتزعت عنوة من محيطها بعد الحكم العثماني وخلال سنوات الحرب الباردة، فإن عودتها إلي هذا المحيط الإقليمي تتوقف علي تواصلها مع عمقها الإستراتيجي الذي يمتد باتجاه العالمين العربي الإسلامي -خاصة دول مجلس التعاون الخليجي- والقوقاز وأرمينيا وإيران، فضلا عن أوروبا. محللون: التقارب الخليجي التركي يشكل محوراً محتملاً بمواجهة إيران جدة – (أ ف ب) قال خبراء في شؤون المنطقة إن التقارب الخليجي التركي يعكس توافقا في المصالح ويشكل محوراً محتملاً بمواجهة سياسات إيران في سورية والعراق في ظل تطورات الأوضاع في هذين البلدين. وأوضح عبدالعزيز بن صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث “يوجد توافق في مصالح الطرفين في مناطق معينة مثل العراق وسورية ولقد استيقظت أنقرة فجاة ووجدت أن لها مصالح اقتصادية كبيرة مع الدول العربية والخليجية تحديدا”. وعقدت دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا محادثات في اسطنبول السبت الماضي تطرقت خصوصا إلى الأوضاع في سورية التي حضتها على قبول خطة الجامعة العربية لوقف إراقة الدماء “دون إرجاء”. كما أكدت تقارير إعلامية أن المحادثات شملت مسألة العلاقات مع إيران. نجاد وقال بن صقر إن “سورية تبقى الموضوع الأهم بالنسبة لدول الخليج وتركيا لأن أي عمل دولي له علاقة بضمان مسارات أو مناطق آمنة فلا بد من تركيا حتى في مرحلة ما بعد بشار الأسد، فإن لأنقرة دورا مهما بحكم الجوار والتداخل والاقتصاد”. وتابع أن “أيا من دول الخليج لا تريد أن تنفرد إيران بالوضع في العراق فلا بد من أن يكون هناك توازن وذلك عبر تركيا التي لديها الأكراد والتركمان في هذا البلد”. وكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان حذر الثلاثاء الماضي رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قائلا “إذا بدأتم مواجهة في العراق تحت شكل نزاع طائفي فمن غير الوارد أن نبقى صامتين”. وختم بن صقر قائلا إن “للتقارب الخليجي التركي ثلاثة أبعاد، فهناك جزء له علاقة بسورية والعراق والتعامل مع إيران وهذا مهم جدا، وجزء له علاقة بالبعد الدولي فيما يتعلق بموقف روسيا من سورية، وجزء يخص الطرفين كاتفاقية التجارة الحرة”. بدوره اعتبر عبدالله الشمري الباحث في الشؤون التركية أن “أهمية الاجتماع الخليجي التركي تكمن في التوقيت حيث إنه الأول بعد أحداث الربيع العربي وتغير الأنظمة في مصر وليبيا وتونس ونجاح المبادرة الخليجية في اليمن”. وأضاف لفرانس برس أن “استمرار الأحداث في سورية وانسحاب القوات الأمريكية من العراق وتخفيف حدة اللهجة التركية تجاه سورية بسبب الدبلوماسية الإيرانية النشطة في تركيا أثار قلق دول المجلس نوعا ما”. ورأى الشمري أن “ثمة فرص كبيرة للتعاون الخليجي التركي لرفع وتيرة التنسيق لممارسة ضغوط دولية وإقليمية على النظام السوري لقد بحث الاجتماع امكانية تدخل دولي تحت غطاء الأممالمتحدة سواء عبر حلف شمال الأطلسي أو غيره إذا استنفدت الجهود السلمية”. ويدعو النص الذي يحظى بدعم بريطانيا وفرنسا وألمانيا والمغرب الدولة العربية العضو في مجلس الأمن الدولي، إلى دعم دولي لخطة الخروج من الأزمة وفق الجامعة العربية وتنص على وقف العنف ونقل سلطات الأسد إلى نائبه قبل بدء مفاوضات. يذكر أن الجامعة العربية علقت السبت مهمة مراقبيها التي بدأت في 26 كانون الأول/ديسمبر. وبحسب الأممالمتحدة، فإن قمع حركة الاحتجاج التي انطلقت في أذار/مارس 2011 أوقع أكثر من خمسة آلاف قتيل. من جهته، قال خالد الدخيل، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الملك سعود لفرانس برس إن “التحالف مع تركيا مهم لاستقرار المنطقة إذا بني على أسس صحيحة وقاد إلى إصلاحات حقيقية” في دولها. وأضاف أن “التحالف هدفه تقديم بديل، نشتكي من إيران ليس كدولة إنما من إيران الدينية الطائفية المكرسة في الدستور، والاشكالية أن سياستها الخارجية تسير على النمط ذاته، وبالتالي فأنها تستند إلى تحالفات وتوازنات طائفية في المنطقة وتشعل فتيل الطائفية لدينا”. وأكد الدخيل “لا بد من تقديم بديل بمواجهة هذه السياسة المدمرة الخاطئة. فدول الخليج وتركيا ومعها اليمن وسورية، بعد سقوط النظام الحالي، مرشحة لأن تقدم بديلا سياسيا يتجاوز ويكشف سوء الخط السياسي الإيراني، بديل حضاري متقدم صناعي منفتح”. وتابع أن “هذا التحالف بما يملكه من مقومات، كاليد العاملة والمال والممرات البحرية وقدرات تكنولوجية وتاريخ، يمكن أن يشكل محورا ليس فقط على مستوى المنطقة إنما على النطاق العالمي”. وأضاف “التصور هو أن التحالف يضم الجزيرة العربية مع بلاد الشام وتركيا هذا مجرد تصور لكن هل سيكون الواقع كذلك؟ فالتحالف لن ينجح إلا مع تحقيق اصلاحات وحصول انسجام مؤسساتي بين مكوناته”.