لا جديد.. ولا يوجد أي تميز أبداً، عندما يأتي أحدهم ويربط «جحشاً.. أي جحش كان.. فالجحش في أول أمره ونهايته، هو حيوان من مخلوقات الله -عز وجل- الذي منَّ عليه بصبر كبير وسعة بال عريضة.. وهو من الحيوانات التي استأنسها البشر منذ فترة طويلة، فأصبحت أليفة ومطيعة ومفيدة.. تُساس فتسير، وتُربط فتقبل.. ولا تتحرك حتى يعطيها صاحبها أمراً، ويجرها من رقبتها عنوة.. ومن جلادة صبره، كنّاه العرب بأبي صابر.. وهو في الغالب مغلوب على أمره، ويصبر على أشد الناس ظلماً.. طائعاً وربما محتسباً أيضاً. وإن فكّر الحمار يوماً بالثورة على صاحبه برفسة خطافية أو رفض السير والحمل على ظهره، فإن العصا دواؤه والعقاب مثواه. إذن المعادلة هنا أن الحمار يُقاد عن طريق أحدهم من البشر. وهي معادلة مفهومة؛ لأن الحمار لا عقل له كالبشر، لذلك استغله الأخير بسبب هذه الميزة التي فضله الله بها عليه. إلا أنه أحياناً تكون المعادلة مقلوبة، ولكن طرفي المعادلة هذه المرة مختلفان.. فليس طرفاها إنساناً وجحشاً ولكن طرفيها إنسان وإنسان! ومن المفهوم أيضاً والمبرر منطقياً، أن الإنسان استخدم الحمار؛ لأنه أقوى منه سلطة.. لكن كيف يحصل لإنسان أن يسيطر ويتسلط على إنسان آخر، ومن المفترض أن يكونا على قدم المساواة! والأغرب من ذلك أن يستخدم صاحب السلطة الأقل صاحب السلطة الأكبر والأعلى نظرياً! استخدام الإنسان لأخيه الإنسان، هي صورة غريبة بل وحتى إنها مثيرة للسخرية والشفقة، ولا تقارن باستخدام الإنسان للحمار. فعلاقة الحمار بالإنسان هي علاقة من طرف واحد؛ فالحمار ليس له أي تأثير أو أي خيار في علاقته مع الإنسان، لكن الإنسان بما أن له عقلاً، فإنه يفترض أن يكون له الخيار بأن يرفض ويقاوم بل وحتى يثور إن أراد أحدهم أن يستبد به ويركب على ظهره غصباً. بيد أن بعضهم يأبى إلا أن يُركب على ظهره ويكون مطية لغيره بطريقة أشد من ركوب الحمير المستأنسة، بل إن بعضهم تكاد لا تتم فرحته إلا وهو يشعر أن الآخر قد استحكم في ركوبه عليه إلى الدرجة التي يدلي فيها رجليه ويؤرجحهما في الهواء. فيكون المركوب سعيداً عندما يُتحكم في قراراته بطريقة أشد من قيادة الإنسان للحمار، وكل ذلك يتم بمزاجه وعن طيب خاطر. ويا ليت هذا الاستخدام يكون في مجال الخير، لكنه مع الأسف يغلب عليه أن يكون استخداماً في مجال الشر. قلت ذات مرة في إحدى مقالاتي في ما معناه، إنك عندما تعيش في مجتمع متخلف عن المجتمعات الأخرى في السلم الحضاري، فإنك أينما تولي وجهك فسوف ترى صوراً بغيضة وأشكالاً منوعة من التخلف على كل الأصعدة، وبطريقة قد لا تطرأ لك على بال أحياناً. وواحدة من صور الفساد لدينا، هي سلطة مديري المكاتب أو السكرتارية على مديريهم الذين يفترضون أن يكونوا هم صناع القرارات كما تخول لهم بذلك صلاحياتهم. ففي بعض الدوائر، وبالذات الحكومية، فإننا نجد أحياناً أن للسكرتير المسؤول سلطة كبيرة لا يمكن أن تعطى له من خلال صلاحياته التقليدية المعروفة، مثل: عقد المواعيد، ترتيب دخول الناس على المسؤول، متابعة سير المعاملات، الرد على المكالمات الهاتفية.. إلخ. فقد يكون هو الرجل الثاني في تلك الدائرة الحكومية بعد رئيسه. فيطرح له المشاريع والاقتراحات، ويعطيه الحلول للمشكلات، ويزكي له الموظفين أو يخسف بصورتهم لديه. وقد يتطور وضع سلطاته ليصبح هو في الواقع، الرجل الأول في صنع القرارات وتنفيذها،عندما تتحول وظيفته لتصبح كوظيفة «الحاجب» في العصور القديمة. يحجب فيها المدير عن الناس، ويحجب الناس عن المدير، ولا أحد يستطيع أن ينفذ إلى المدير إلا بسلطانه ومن خلاله. ويا ويل من يتجرأ ليبحث عن طريقة معينة للقاء المدير دون علمه وإذنه، بل الأردى من ذلك أن ذاك المسؤول قد يرفض أصلاً أن يقابل أحداً إن لم يأتِ من على جسر سكرتيره وبرضاه بحجة أن هذه الطريقة الراشدة التي يجب أن تتم عليها الأمور. وحجب المدير عن الناس، الذي يمارسه بعض مديري المكاتب، قد لا يكون حجباً حسياً ولكن أحياناً يكون حبساً وحجباً معنوياً. فقد تقابل صانع القرار المستبد برأيه وتحاول أن تقنعه بصحة مطالبتك لكن لا يستطيع أن يتعاطف معك أو حتى يستمع لك وقد أعطى ثمرة قلبه لسكرتيره الذي يلهو به كما يلهو الصبية باللعبة، لدرجة أنك تشك أحياناً إن كان السكرتير قد عمل سحراً للمدير، فلا يقدر أن يرد له طلباً أو يخالف له رأياً! إن هؤلاء المديرين الذين يمارسون الاستبداد على الناس في قراراتهم، هم يبيعون حريتهم في الاختيار إلى أشخاص آخرين؛ ليمارسوا بدورهم عليهم الاستبداد. فالمستبد يحب العلاقة التبادلية؛ إذ لا يرتاح أحياناً حتى يُستبد به من غيره؛ لأن الاستبداد دائرة تحتاج لمثل تلك الشخصيات السلبية حتى تكتمل حلقاتها لتسير وتعمل.