يوصف الاستبداد عادةً بأنه تصرفٌ من طرف واحد هو المستبد، وتحال كل الممارسات الطغيانية عليه. ولئن كان هذا الكلام صائباً على مستوى المسؤولية غير أنه لا يصح على المستويات الأخرى. المستبد لم يكن ليطغى على الناس لولا أنهم أتاحوا له هذه الفرصة، وهذا مثل الذي حدث مع قوم فرعون عندما حدثنا الله عنه: "فاستخفّ قومه فأطاعوه". المستبد يستخفّ بالمجتمع فيمارس استبداده. والمشكلة أن التجارب العربية مع الاستبداد سيئة ومقلقة. مثلاً تونس انتقلت من استبداد إلى استبداد آخر، وكذلك مصر، والسبب أن الثقافة المجتمعية لم تتطور وتخرج بأفكارها عن القابلية للاستبداد. وهذه هي العلاقة المتشابكة بين الاستبداد والمجتمع. ثمة مثلث أساسي يحرك الاستبداد: "المستبد، المجتمع، الثقافة". هذه الأضلاع الثلاثية هي التي تدوّر الاستبداد وتحركه. وإذا كان المفكر الجزائري مالك بن نبي هو من نحت فكرة "القابلية للاستعمار" فيمكننا أن نكتشف "القابلية للاستبداد". المجتمع الذي يتعرض لاستبداد مطلق إنما عانى من الثقافة التي تجعله يتقبّل الاستبداد. كما أن الاستبداد يكون بالممارسة السياسية، فإنه كذلك ينعكس مع الأفكار. الأفكار بعضها استبدادي وطغياني. حين تجبرك الفكرة على فعل هذا وترك هذا من دون قناعة منك فإنها تستبدّ بك وتحرمك من الحرية ومن الحركة. الاستبداد ينخر في المجتمعات التي تعتمد في حياتها على العشائرية والقبليّة لأنها تفتقد إلى الفردانية التي هي أساس الحرية وأساس التخلص من الاستبداد. دائماً المجموعات تقلص خيارات الأفراد. إذا كنت في رحلة بريّة فإن وجودك ضمن مجموعة يجعل خياراتك أقل لهذا يتنازل هذا لخيار ذاك، أو تمتنع عن خيارات لك مجاملةً أو مصانعةً أو مداراةً، لكن هذا الاستبداد اختياري وذاتي. الاستبداد أشمل من السياسة، حين نكون أسارى لعادة ما لا نستطيع التخلي عنها فإننا بالفعل نمارس بحق أنفسنا استبداديةً مقلقلة ومطلقة لا تقل عنفاً عن الاستبداد السياسي. إذا كنا شجعاناً فلنتأمل بأفكارنا المستبدة، وأن نفتش عن الطاغية بداخلنا، وأن نمحض أنفسنا المراجعة والمحاسبة لأننا كلنا نستبدّ ضد خدمنا أو أبنائنا أو من هم تحت يدنا. نعم "إن الإنسان ليطغى" والاستبداد حتى يختفي من مشهد واقعنا علينا أن نخفف من طغياننا نحن ومن تجاوزاتنا.