لم تشهد بلداننا العربية منذ زمن طويل حالة الاستقطاب التي بدأت من ثلاث سنوات واستمرت حتى الآن، فحالة الركود والجمود الطويلة التي امتدت من عقود طويلة جداً كانت عامة من جهة، ولا تنبئ بأن ثمة بركان قادم على هذه المنطقة، فباستثناء الصراع مع إسرائيل ونتائجه لم يكن يحدث أي شيء يستحق الذكر، كان العرب يبدون وقتها مسالمين كافين خيرهم شرهم، لا معارك مهمة تحدث على كل الأصعدة، إذ كانت الأنظمة الحاكمة قادرة على ضبط الوضع، وبإرادتها هي قادرة على تصعيده، فتجعل من لعبة كرة قدم مثلاً حدثاً كبيراً جداً ولعل الجميع يذكر المبارة الشهيرة بين مصر والجزائر وما نتج عنها وما تم استخدامه سياسياً لهذا وسقوط قامات كبيرة فنية وثقافية وقتها دخلت في الخلاف المفتعل بطريقة شوفينية وعنصرية مفاجئة، لا شيء غير هذا، كان يوحي بأن لدى الشعوب العربية هذا المقدار من الغضب والكراهية والعنف الذي كان ينتظر أن تفتح ثغرة صغيرة في الجدار السميك كي تفجر الجدار وحوامله، شرارة البوعزيزي على ما يبدو كانت هي هذه الثغرة، حيث فقدت الأنظمة العربية سيطرتها على كل شيء، مثلما فقدت الشعوب سيطرتها على غضبها، ذلك الغضب الكامن منذ عقود مرافقاً في كمونه كل ما يخطر في البال من الآفات والأمراض والعقد، تلك الأنظمة كانت تنتج الفيروسات وكانت الشعوب تتلقاها وتستقر فيها بانتظار لحظة الحمى الكبرى لتعلن عن وجودها، ومثلما كانت شرارة البوعزيزي هي الثغرة كان الدم العربي الذي سال في الشوارع على يد الأنظمة هو الحمى التي نشرت الوباء الكامن، للدم البشري رائحة خاصة تسبب الإدمان للقاتل مثلما تسبب الإدمان لمتحدي هذا القاتل والواقفين في وجهه، خاصية رائحة الدم كانت تنتقل بالهواء، تصيب كل من اقتربت منه بفيروسها المعدي، فتعمم العنف على الجميع، العنف الذي ستوصم هذه المرحلة التاريخية الاستثنائية من عمر الشعوب العربية به، أصبح العنف لغة يومية، تلقائية، عادية، مشاعية، سهلة، إذ لا ضابط يمكن له تحجيمه ولا رقيب ليوقفه بعد أن فقد الجميع أجهزة التحكم به، الأنظمة لأنه يبرر وجودها ويتيح استمرارها والشعوب في تحديها لهذا الوجود ورفضها له، لأول مرة تسقط عن الموت رهبته، فمن فرط حضوره لم يعد أحد يهتم به، لم يعد كما كان ضيفاً ثقيل الظل يخشى الجميع التفكير به، صار كائناً خفيفاً رشيقاً يدخل أي مكان وفي أية لحظة ويجالس الجميع ويرافقهم في يومياتهم، كائن أليف صار الموت لكنه في طريقه كان يفتح الثغرات كلها تاركاً للخراب أن يتنفس في الهواء الطلق، ثمة دم في الشوارع وموت حقيقي يتجول في كل مكان معلناً انتصاره وثمة قاتل لا يردعه أحد، بالمقابل ثمة قاتل افتراضي تشكل فينا نحن المتلقين لكل هذا العنف قاتل يرغب بقتل كل من يخالفه أو يعترض عليه، هذا القاتل الافتراضي الذي فينا لا يملك سلاحاً آلياً ولا تقليدياً، ما يملكه هو الغضب الحاد والكلام الإقصائي العنيف واللغة الفظة التي تفضح رغبة القتل، راقبوا أي خلاف يحصل حالياً بين اثنين في أي مجال، راقبوا كيف تتعادى هذه الشعوب نفسها، راقبوا المفردات المستخدمة والعبارات القاطعة الحادة، أنت تختلف معي بشيء وتعارض ما أقوله إذاً أنا سأدمرك ملقياً عليك كل ما حفظته من شتائم شخصية وعامة، وسأحملك مسؤولية هذا الخراب وسأتهمك بكل شيء وسأحاكمك وسأعدمك في جملة واحدة فقط، راقبوا هذا العنف على صفحات الفيسبوك العربية، راقبوه على الشاشات، راقبوه كيف يتجول في الشوارع المزدحمة والفارغة، راقبوه في البيوت في غرف النوم في المدارس بين الأطفال في ألعابهم، في خلافات المثقفين، في قصائد الشعراء، في مخيلات المبدعين، في الجامعات في المقاهي في كل شيء وفي كل مكان، لا صوت يعلو عليه ولا إرادة فوقه، شيء يشبه الهستيريا المعممة المشاعية التي تطول كل شيء، قلت لكم: وباء وانتشر وسينتشر أكثر وسيحتاج زمناً طويلاً كي يتم القضاء عليه وحينها فقط يمكن القول إن ربيعاً عربياً قد تحقق فعلاً.