الولايات المتحدة وأوروبا أكبر الممولين لصناعة «الارتزاق». براجماتية الحكومات ألجأتها للشركات العسكرية لممارسة الحرب بالوكالة. رصيد بعض الشركات من المرتزقة يتجاوز 620 ألفاً.. وتعمل في 125 دولة. تكشف الممارسات المتزايدة للشركات العسكرية والأمنية الخاصة حول العالم، عن اختراق غير مبرر للاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم. فرغم توقيع الدول على تلك الاتفاقية التي اعتمدت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1989 ودخلت حيز التنفيذ في أكتوبر 2001، تنشط دول كثيرة بتأثير من نزعة حكوماتها البراجماتية في إتاحة مجالات عمل واسعة لتلك الشركات التي اكتسبت سمعة سيئة بفضل أعمالها المشبوهة في عديد من مناطق النزاع، التي عرفت «بحروب الطرف الثالث»، حتى أصبحت صناعة الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة تدر أرباحاً تفوق 300 مليار دولار سنوياً. ورغم أن هذه الاتفاقية حددت مفهوم المرتزق بما لا يدع مجالاً للشك في انطباقه على العاملين تحت إمرة تلك الشركات، فما مسوغات ازدهار أعمالها التي تتنافى كلياً مع مبادئ تلك الاتفاقية؟ وتجرم هذه الاتفاقية الأعمال التي تندرج تحت ما يسمى بالارتزاق، وتحظر على الدول الموقعة عليها تجنيد أو استخدام أو تمويل أو تدريب هؤلاء المرتزقة سواء لتنفيذ عمليات داخلها أو لغرض مقاومة الممارسة الشرعية لحق الشعوب غير القابل للتصرف في تقرير المصير. كما تنص على معاقبة الدول الأطراف على الجرائم المنصوص عليها في هذه الاتفاقية بعقوبات مناسبة تأخذ في الاعتبار الطابع الخطير لتلك الجرائم. وتُعرف الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بأنها شركات تقدم خدمات المساعدة الأمنية والتدريب والإمداد والاستشارة بأنواعها لحسابها الخاص أو لصالح «طرف ثالث» أياً كان الشكل الذي تأخذه الشركة ذاتها وهي خدمات تبدأ من الإمدادات غير المسلحة وخدمات حرس الأمن المسلح، وتمتد إلى الخدمات المتصلة بأنشطة دفاعية أو هجومية عسكرية أو أمنية، بخاصة في مناطق النزاعات المسلحة أو عقب النزاعات وكل ما يستلزم استخدام السلاح عند الاضطلاع بمهامهم. ولجأت البلدان الأوروبية والولاياتالمتحدة منذ تسعينيات القرن العشرين، بعد أن اضطرت إلى خفض ميزانياتها العسكرية وتعداد جنودها، إلى إسناد بعض مهامها العسكرية إلى تلك الشركات، بخاصة تلك المهام التي لم تعد قادرة على تنفيذها، خاصة في القارة الأوروبية. ومعلوم أن الشركات العسكرية الخاصة تهتم بأسواق محددة ومهمة، وبالنشاطات التي لم تعد القوات العسكرية التقليدية راغبة، أو قادرة على القيام بها، في ظل توجه لدى القادة العسكريين بانتفاء الجدوى الاقتصادية لتوظيف جنود لعدة سنوات للقيام بمهام معينة. وتعمل تلك الشركات في منطقة رمادية لم تحددها المعايير الدولية على نحو واضح، خاصة أن المادة 47 من البروتوكول الإضافي لاتفاقيات جنيف لحقوق الإنسان المؤرخة في 1949 والمتعلقة بحماية ضحايا النزاعات الدولية المسلحة لا تحظر الارتزاق وإنما تنص فقط على عدم منح المرتزق وضع محارب أو أسير حرب. وتوصلت 17 دولة إلى تفاهم حول وثيقة «مونترو» بشأن الالتزامات الدولية والممارسات السليمة للدول ذات الصلة بعمليات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أثناء النزاع المسلح. وتنص الوثيقة على أن تلتزم الدول بحقوق الإنسان حتى عندما تختار التعاقد مع هذه الشركات على أداء أنشطة معينة. ولكن رغم أهميتها لم تنجح اتفاقية «مونترو» في سد الثغرة التنظيمية في مسؤولية الدول عن سلوك الشركات العسكرية والأمنية الخاصة ومستخدميها خاصة على صعيد الفجوة بين دور تلك الشركات في الدول العاملة فيها وبين دورها في دول المنشأ التي تأسست فيها. ولعل من الإشكاليات التي تواجه الدول فيما يتعلق بوضع هذه الشركات أن ثمة أنشطة في المجالين الأمني والعسكري لا يجوز إسنادها للقطاع الخاص؛ لأنها ببساطة تعد من اختصاص الدولة. هذا بالإضافة إلى ضرورة تحديد الأنشطة التي يحظر على تلك الشركات الخوض فيها، بخاصة تلك المتعلقة بأنشطة الارتزاق المحظورة بموجب الاتفاقية الدولية المناهضة لتجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم أو المشاركة في الإطاحة بالحكومات والسلطات السياسية الشرعية. ونسبت تقارير أمنية عديدة لتلك الشركات تنفيذ أعمال ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما يسمى بالربيع العربي تمت ترجمتها من خلال نشاط منهجي لتدريب العناصر التي قادت هذا النشاط، وترتيب إجراءات نقل السلاح عبر الدول العربية وحشد المرتزقة لتنفيذ عمليات نوعية أسهمت في إسقاط عديد من الأنظمة أو خلق بؤر صراع فيها غير قابلة للاحتواء، وهو ما طرح مؤخراً من خلال الجيوش الموازية التي نشط الإخوان في الترويج لها وتقود عمليات إرهابية ممنهجة في دول مثل مصر وليبيا وسوريا ولبنان. وما يزيد الأمر سوءاً، أنه لا يتوفر سجل دولي لحركة نقل السلاح من وإلى الأراضي المصدرة له على الصعيد الدولي. كما لا يوجد سجل دولي للشركات العاملة في نطاق الخدمات الأمنية والعسكرية بحيث يمكن متابعة نشاطها. ولا يعتقد أن الحكومات تملك سجلات معلوماتية عن منهجية عمل تلك الشركات على أراضيها. ومؤخراً تم اقتراح تشكيل محكمة تحكيم دولية للقضايا المتعلقة بتلك الشركات كآلية رسمية لحل المنازعات في المخالفات التي ترتكبها تلك الشركات، أو استصدار اتفاقية دولية أو بروتوكول في إطار المحكمة الجنائية الدولية ينظم عمل الشركات العسكرية وآليات مراقبتها ومحاسبتها. كما اقترح فريق متخصص تابع للأمم المتحدة أن يتم إلزام الشركات العسكرية والأمنية المتخصصة بتدريب عناصرها على حقوق الإنسان وقوانين الحرب. وفي هذا الإطار اقترحت مبادئ أولية يعتقد أنها قد تسهم في تنظيم عمل الشركات العسكرية ومنها إلزامها باحترام المعايير العالمية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي والقوانين الوطنية لبلدان المنشأ أو بلدان العبور أو البلدان التي تجري فيها العمليات، وكذلك إلزامها باحترام سيادة الدول والحدود المعترف بها دولياً وحق الشعوب في تقرير المصير وعدم المشاركة في أي أنشطة تهدف إلى الإطاحة بالحكومات أو السلطات الشرعية أو تغيير الحدود المعترف بها دولياً باستخدام العنف أو التحكم الأجنبي في الموارد الطبيعية باستخدام القوة. ويضاف إلى ذلك ضرورة إلزام تلك الشركات باتباع طرق شرعية لاقتناء الأسلحة وتصديرها واستيرادها وحيازتها واستخدامها، والسماح فقط باستخدام القوة الملائمة وبالقدر المناسب، والتشديد على منع استخدام الأسلحة بشكل عام والحظر التام على استخدام أسلحة الدمار الشامل، وإخضاع الشركات العاملة في هذا المجال للمساءلة أمام حكومات بلد المنشأ والتسجيل وأمام البلدان التي تنفذ فيها عملياتها. وفي 2010 وقعت 58 شركة عسكرية وأمنية مدونة سلوك دولية للشركات الأمنية الخاصة أكدت فيها التزامها باحترام حقوق الإنسان والقانون الإنساني في ممارسة أنشطتها في أول مبادرة من نوعها قادتها سويسرا. واستندت المبادرة إلى وثيقة مونترو بشأن الالتزامات القانونية والممارسات السليمة للدول ذات الصلة بعمليات الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أثناء النزاع المسلح. وبموجب مدونة السلوك هذه أعرب الموقعون عليها عن التزامهم بالتعاون بحسن نية مع السلطات الوطنية والدولية خاصة في مجال التحقيقات بشأن انتهاكات القانون الجنائي الوطني أو الدولي والقانون الإنساني الدولي أو انتهاكات حقوق الإنسان، مع وضع آليات للحوكمة والمراقبة بما يسمح بمنع انتهاكات حقوق الإنسان ورصدها والإبلاغ عنها واتخاذ إجراءات فعالة للتصدي لها. وتعهدت الشركات الموقعة على تلك المدونة بأن لا تقوم (عن علم) بإبرام عقود قد يتنافى تنفيذها (فعلا ومباشرة) مع مبادئ هذه المدونة أو القانون الوطني أو الدولي الساري أو مع القانون المحلي أو الإقليمي أو الدولي المتعلق بحقوق الإنسان، وأنه لا يمكن لها الاحتجاج بأي التزام تعاقدي للتنصل من احترام هذه المدونة. وتعتمد الشركات الموقعة قواعد لاستخدام القوة تتماشى مع القانون الواجب التطبيق والشروط الدنيا الواردة في بند استخدام القوة من هذه المدونة، وتكون هذه القواعد موضوع اتفاق مع العميل. ولا تجيز المدونة للموقعين عليها اعتقال تلك الشركات لأي شخص أو احتجازه إلا إذا كان الهدف من ذلك هو الدفاع عن النفس أو حماية أشخاص آخرين من خطر عنف وشيك، أو عقب هجوم أو جريمة ارتكبها الأشخاص المعنيون ضد موظفي الشركة، أو عملائها أو أملاك موضوعة تحت حمايتها، وتسلم الأشخاص المحتجزين بهذا الشكل للسلطة المختصة بأسرع وقت ممكن؛ وتشترط على موظفيها اتباع السلوك ذاته. كما يحظر أن تمارس الشركات الموقعة التعذيب أو غيره من العقوبات أو ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وتشترط على موظفيها الامتناع عن القيام بذلك. وتحصل الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على عقود بمئات مليارات الدولارات نظير تنفيذها لحروب بالوكالة نيابة عن الدول المؤجرة لخدماتها. ولعل من أبرز الشركات العاملة في هذا المجال على مستوى العالم، الشركة البريطانية الشهيرة «جي فور إس» التي تعد من أكبر الشركات العاملة في مجالها في العالم وتوظف نحو 620 ألف شخصاً في 125 بلداً، وشركة «بلاك ووتر» (سيئة السمعة) التي نسبت إليها من أعمال في العراق وفي أفغانستان وجنوب السودان، وتتألف من ست شركات فرعية، ويقودها أحد أفراد القوات الخاصة الأمريكية سابقاً وهو جاري جاكسون، وتمتلك أكبر موقع خاص للرماية في الولاياتالمتحدة وعلى مساحة 24 كيلومتراً، وشركة «كي بي آر» المملوكة لشركة «هاليبرتون» التي تقدر ميزانية عقودها مع البنتاجون بنحو 11 مليار دولار، وتوظف أكثر من 50 ألف مرتزق، وشركة «دين كورب»، وشركة «براون رووت سرفيس». وتعد الولاياتالمتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي من أكبر الممولين لهذه الصناعة ولها تعاملات مهمة معها على مستوى العالم. وتشير تقديرات دولية إلى أن حجم التعاقدات الرسمية التي ترتبط بها وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون مع 12 شركة خدمات عسكرية خاصة تقدر بنحو 300 مليار دولار سنوياً، توظف نحو 700 ألف مرتزق. ويعمل في أفغانستان وحدها قوات أمنية «خصوصية» تقدر بنحو 107 آلاف مدنياً و 78 ألف جندي. وتشير نشرة الهجرة القسرية إلى أن عدد الشركات العاملة في هذا النشاط يقدر بنحو 300 ألف شركة في العالم. وقدرت بعض المصادر عدد العاملين في الحراسات الخاصة بمصر بنحو سبعين ألف فرد، يعملون من خلال أكثر من 250 شركة في الحراسات الخاصة دون تصريح من الأمن! وبرر تقرير لمؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري «إينغما» استخدام عديد من الدول خدمات الشركات العسكرية بما طرأ من تطورات أمنية «خارجة عن السيطرة» في العالم، بخاصة في حالة مثل تزايد أعمال القرصنة قبال السواحل الصومالية وفي خليج عدن على وجه التحديد. وتمثل خدمات تلك الشركات خياراً أوحد لتأمين الممرات المائية المهمة استراتيجياً؛ حيث تشكل القرصنة مصدر قلق أمني كبير. ووفقاً للتقرير، فإن استخدام هذه الشركات كان يقتصر على بعض الممرات المائية مثل مضيق ملقا. أما اليوم، ونظراً لامتداد موجة هجمات القراصنة حتى مياه خليج عدن، أو بمعنى أكثر تحديداً، نظراً للخسائر المالية الكبيرة التي تتكبدها شركات التأمين وأصحاب السفن، اتّسع نطاق عمل تلك الشركات. ولا توجد قوانين ملزِمة تتناول على وجه التحديد استخدام حراس مسلحين تابعين لشركات خاصة على متن السفن. وتشكل المنظمة البحرية الدولية المؤسسة التي يمكن القول إنها الأنسب لوضع مبادئ توجيهية دولية؛ لأنها تُعنى بقضايا متعلقة بالأمن البحري، ولكن بدلاً من أن تلجأ هذه المنظمة إلى وضع اتفاقية موحدة، أوصت لجنة السلامة البحرية التابعة لها الدول التي ترفع السفن علمها بالتعاون مع أصحاب السفن لوضع سياسات متعلقة باستخدام حراس مسلحين على متن السفن. ولجأ عدد من الدول التي لم تضع مبادئ توجيهية واضحة بهذا الخصوص إلى السماح باستخدام حراس مسلحين تابعين لشركات أمنية خاصة. ففي المملكة المتحدة، مثلاً، التي كانت منعت بشدة تسليح السفن، وافقت الحكومة في أكتوبر 2011 على قانون يسمح باستخدام حراس مسلّحين على متن السفن التي ترفع علم المملكة المتحدة. ولم يُسمح لسفن الشحن فحسب باستخدام حراس مسلحين، بل أيضاً لسفن أخرى، مثل السفن السياحية وقوارب الصيد. معدل العناصر المرتزقة إلى الجيوش الرسمية: تطور عوائد الشركات: