عِلمُ الموتِ الرصين يمنحُ ألمانيا درسَ الحياة. أدركَ «بول سيلان» هذا وهو ينظرُ إلى النهر تحت جسر باريس شاعرٌ يستعيد تجربةً أحيتْ شعباً فيما يستعد، بأجنحته الصغيرة، القفزَ إلى موته. تذكرتُ «بول سيلان» هنا، في بيت «هاينريش بول» الأبعدَ من جهتين البيتُ الروماني والنهرُ الفرنسي مسافةٌ شاهقة اختزلها «بول سيلان» عابرُ التاريخ بين سجنِ الموت وبيتِ القصيدة لئلا يقالَ إنَّ شاعراً ينسى الدرس. لوقع خطواته النحيلة صمتٌ ناعمٌ يتسرَّبُ في أرجاء الصخورِ الصقيلة تغطي الطريقَ الموازيَ للبيت بظلٍ شفيفٍ يتبع شبحاً غائماً يبحثُ عن قمرٍ لا يأتي خطواتٌ تلامسُ زجاجَ النوافذِ وتخدُشُ النوم دونَ أنْ نسمعها وحين نعبرُ صخوره الصقيلة نلحظ آثارَ أقدامٍ تتوارى في تجاعيدِ الحجر شيءٌ من الذكرى السائلة وقمصانَ القمحِ اليابسة ولا مبالاةُ الندى تُضاعفُ من بريق الحجرِ المتعب فندرك أنَّ ظلاً نحيلاً مرَّ من هنا بخطواتٍ غير مرئيةٍ حاملاً بريدَ الحقل للأشباح الضالة قصصاً وقصائدَ وأساطير في نصوصٍ يَسهرُ عليها أصدقاءُ «هاينريش بول». سمعتُ وقعَ تلك الخطواتِ غيرِ المرئية ورأيتُ آثارَها في كتابي. جئتُ في بقايا الربيعِ الفظيع قيلَ إنَّ إعصاراً اجتاحَ شرفةَ البيت واقتلعَ البصيلات المتدليةَ حول النوافذ واجتثَّ فسائلَ البقليات الملونة في بهوِ البيت قال فتى الجيران، بأجنحته المهيضة عن خشيته الذاهلة عن شتاءٍ يأخذُ العِبرةَ من ربيع هذا العام في الريف والضاحية وخصَّني بالنصيحة لا سهرةَ خارجَ الدار وليس لي أن أنتخب نبيذاً أبيض من خارج القبو ولا أصدقَ موسيقى الجنادب فربما جاءَ الشتاءُ المتهور أكثر جنوناً من الربيع الفظيع. اختطفتْ شجرةَ التفاح رهينةً لقاء أنْ تزورَنا في الأسبوع الأخير من كل شهر همستُ لها أن لا تحلم بفدية أبداً ما عليها إلا أنْ تواصل تهديدَها وسوف يكونُ البيت رهنَ إشارتِها طوالَ السفر والإقامة. شجرةُ التفاح لم تكفَّ عن بذل ثمرها في أحضان الزائرين أخذتْ سيدة البيت النشيطة تحدث لزوجتي عن فطائر التفاح لئلا يفوتَها شيئاً من الثمر المخطوف فثمة زائرةٌ لنْ تتأخرَ عنا في الأسبوع الأخيرِ من كل شهر. شجرةُ التفاح مايسترو الحديقة ومظلةُ البيت رهينةٌ لا فديةَ لها. جاءنا غجرٌ يأتزرونَ بالنيلوفر الطازج ويحزمون خواصرَهم بحبال مجدولةٍ من خصل الأشجار ويعتمرون الزهرَ الأصفر أرخينا لهم خيوطَ النارنج وتضرعنا بالأخشاب وحجرِ البحر لكي تأتيَ الغجريات يعثرنَ فينا ما ضاعَ لهنَّ من فتيان الغجرِ المرتاعين لفرط الحقل المغصوب وماءِ القلب المسكوب الغجرِ المطرودين بأشلاء داميةٍ الغجرِ المجروحين بفقدٍ فادح يأتون عراةً في الشمس يغنونَ كأنَّ الحزنَ لهم ونحيبَ الجبل المعلول لهم ولهم حممٌ وشواظٌ يخترقونَ الريف بترتيلٍ يوقظ صمتَ الكون لهم في الكون حتوفٌ وسُرادقُ أسرى ينجرفون ويُخْفُونَ تراثَ الخوف الغجرُ النبلاء يجيئون خِفافاً يصطحبونَ الريحَ ويبكون بلاداً في النَهْبِ مضيّعَةً يوارونَ جنائزَهم في خجلٍ الغجرُ الآتون على الصهوات الحَسْرى يتقصَّونَ الأسرى فيجيئون يمرّونَ بذُعر الوحش ويختبرونَ محبةَ نار البيت لهم ينتحبونَ على حجر الباب يَصِيخُونَ السمعَ لعلَّ الأسرى ينتبهونَ لهم فيرنُّونَ الأجراسَ …… غجرٌ ولهم فينا فلذاتُ الأكباد لهم ما يبقى فينا من بشرٍ. غجرٌ بشرٌ تُطلق أحلاماً في أرضٍ تسعى للشمس الأخرى.