أوضح الدكتور محمد آل زلفة، أنّ تاريخ منطقة عسير بشكل عام، قبل ظهور الدولة السعودية الأولى وامتداد نفوذها إلى هذه المنطقة، ما زال مجهولاً، إلا أنه كان يعيش حالة من الاستقرار، والازدهار أيضاً، مستدلا بالمظاهر العمرانية في معظم أنحاء المنطقة ممثلة في القصور والبيوت والمساجد والفنون المختلفة. وقال آل زلفة، خلال محاضرة بعنوان «مكانة رجال ألمع في أحداث تاريخ عسير الحديث والمعاصر»، ألقاها في مجلس ألمع الثقافي مساء أمس الأول، وقدم لها الدكتور أحمد آل فايع: كلّ قبيلة كانت تعيش آمنة في منطقتها، تدير شؤونها بنفسها على أسس من النظم السياسية التي اختارتها لنفسها، دون أن تملى عليها من خارجها، وكلّ قبيلة تدير علاقاتها مع القبائل المجاورة لها على أسس تضمن حالة الاستقرار، كون معظم سكان منطقة عسير، يعملون في مجال الزراعة والتجارة، والعلاقة بين الزراعة والتجارة والاستقرار والبناء الحضاري علاقة عضوية. وأضاف أن منطقة رجال ألمع مثل غيرها من المناطق الأخرى، فيما يعرف تاريخياً وجغرافياً بمنطقة عسير، كانت تعيش حياة آمنة، وتربطها بجيرانها علاقات مبنية على التفاهم والتبادل المصلحي والاحترام المتبادل، إلا أنها لم تخلُ، كطبيعة بشرية، من حالات مناوشات قد تتطور إلى حروب، ولكنها محدودة يفرضها صراع المصالح. وأشار آل زلفة إلى أنّ قبائل رجال ألمع تُعد أكبر وأقوى القبائل تماسكاً في السفوح الغربية من جبال عسير وامتداداتها في تهامة عسير، لكنّ هذه القبيلة لم تلبث أن وجدت نفسها مجبرة على المشاركة في حروب ضد المناطق المجاورة لها، التي كانت تربطها بها مصالح كثيرة، تحت شعار نشر العقيدة الصحيحة. وقال: من هنا دخلت المنطقة وليس رجال ألمع وحدها، في دوامات من الصراعات فرضت عليها، وقد أفضت في النهاية إلى دخول عسير برمتها في مواجهات مع قوى أجنبية، ممثلة في تدخل والي مصر محمد علي باشا وما جمعه من قوات مرتزقة لغزو المنطقة، التي أصبحت أهمّ قوّة متحدة لمواجهة الغزو الأجنبي الرامي إلى فرض حكمه المباشر على هذه المنطقة التي لم تطأها أقدام أجنبي محتلّ. وتابع أن منطقة عسير ورجال ألمع في طليعتها، ظلّت ولقرن كامل في مواجهات لم تنقطع مع مَنْ حاول فرض نفوذه عليها، وفي سبيل صد تلك المحاولات شهدت المنطقة عشرات المواجهات من حروب فقدت فيها عشرات الآلاف من الشهداء وتدمير لمئات البلدات والقرى، وتعطيل أي محاولة لإعادة بناء ما دمرته الحروب، وعودة الاستقرار والازدهار الذي كانت تعيشه المنطقة، قبل ما أفرزته تطورات الأحداث منذ أحداث أواخر القرن ال18 وطوال القرن ال19 وحتى النصف الأول من القرن العشرين. وشدد على أنّ عسير لم تكن – في أي مواجهة- معتدية، بل كانت حروبها مفروضة عليها، وكانت ترى من حقها مقاومة أي معتد أو يُعد للاعتداء على أراضيها وسيادتها، ومن أجل هذا اتسع نفوذ إمارة عسير ليمتد من الحدود الجنوبية لولاية الحجاز العثمانية إلى السواحل اليمنية، مبررا هذا التوسّع بأنّ كلاً من الحجاز والسواحل اليمنية وقاعدتها الحديدة، أماكن لانطلاق القوات المصرية والعثمانية التي تستهدف الأراضي العسيرية، وقد تمكنت القوات الغازية في كثير من الحالات من التوغل في عقر المنطقة، ولكنها كانت تُهزم في الأخير. وأشار آل زلفة إلى أنّ عام 1254ه شهد حشد الأمير عائض بن مرعي جيشاً قوامه عشرون ألف مقاتل، منهم ما لا يقلّ عن ألف مقاتل من رجال ألمع، لمواجهة القوات المصرية بقيادة أحمد باشا في بلاد غامد، والتحم الجيشان في بلدة رغدان، وانتهت المواجهة بتراجع الجيش العسيري، وكان عدد من أسر من رجال ألمع ضخماً في تلك المواجهة، حيث قدر العدد ب700 أسير، أخذوا إلى قرية القوز بداية بالقرب من القنفذة، ثم تمّ نقلهم إلى جدة، بعد أن مات منهم عدد غير قليل وبقي 500 في الأسر سنتين تقريبا. وذكر أن مشاركات قبائل رجال ألمع في أحداث منطقة عسير بما فيها من انتصارات وانكسارات لم تنقطع على الرغم مما جرّته عليهم من ويلات امتدت إلى حين دخول المنطقة ضمن الوحدة الوطنية في 28/ 5/ 1339ه، مشيراً إلى أن قبائل رجال ألمع شاركت في الحرب السعودية اليمنية عام 1352ه، في حرب اتّحدت فيها مناطق المملكة، لأنّها كانت ضد من حاول المساس بوحدة وطن. وفي المداخلات، أشار الدكتور سعيد مفرح، إلى أنّ هناك وجهاً مشرقاً للإدارة العثمانية يجب ألاّ نغفله، وليس السلطة العثمانية، وهو ما وجده على مستوى التنظيم الإداري، مبينا أن رجال ألمع كانت ثاني أفضل إدارة في عهد العثمانيين بعد أبها، وهذا يعود إلى طبيعة المستوى الثقافي لسكان هذه المنطقة. فيما تساءل الكاتب محمد البريدي عن رأي آل زلفة في تاريخ الصليبي، ولماذا لم يكن هناك مؤرخ يبحث في هذه النظرية؟. وأجاب آل زلفة بأنّ الصليبي قارئ جيد للتوراة، لكنّ ما كتبه غير صحيح. وهو ما أثار الدكتور عبدالعزيز الفقيه، ودفعه للقول بأنّ الدلائل اللغوية التي استند عليها الصليبي لها جذور تاريخية، لكنّ هذا لا يعني صدق ما قال. فيما اكتفى الكاتب محمد الأسمري بالترحم على كمال الصليبي. وأثنى فيصل الحفظي على جهود آل زلفة في حفظ الكتب التاريخية المهمّة، وأشار إلى أنّه وجد كتاب «نفح العود في تاريخ آل سعود» محفوظاً لدى أحد المهتمين بالتاريخ، وذكر له أنّ آل زلفة أنفق على ترميم الكتاب من جيبه الخاص أكثر من أربعين ألف ريال، وتمنّى الحفظي لو كان كثير من الأوراق الضائعة والتالفة بين يد آل زلفة. وفي ردّه على سؤال ل «الشرق» عن استسهال الكتابة في تاريخ منطقة عسير من بعض الكتبة، وخروج كتب في تاريخ المنطقة لا علاقة لمؤلفيها بالكتابة التاريخية من قريب أو بعيد؟، أجاب آل زلفة أنّ هذا صحيح، لكنّ القارئ أصبح فطناً ولا يمكن أن تنطلي عليه بعض هذه الكتابات. وختم آل زلفة حديثه بالإشادة بالباحث في تاريخ المنطقة محمد غريب الذي عدّه واحداً من أهمّ المراجع التاريخية في المنطقة، إذ لا يوجد باحث جادّ في عسير -حسب قوله- إلاّ ومرّ به، لأنّه باحث جاد ومتعدّد المواهب.