تستمد نجران قوتها من تميز موقعها، وقوة شكيمة أهلها. هاتان الميزتان لازمتا نجران منذ قرون طويلة تعود إلى ما قبل ظهور الأديان. ومع ظهور الأديان كان لأهل نجران تفاعل معها ومع مؤثراتها، لم نلمس له مثيلا في أي مكان آخر من جزيرة العرب مع اتساع رقعتها الجغرافية. فلقد أخبرتنا الكتب المقدسة، خاصة القرآن العظيم خاتم تلك الكتب، وخاتم تلك الرسالات بما شهدته أرض نجران من صراع بين أتباع الديانات التي سبقت الإسلام. قبلت قبائل نجران الدخول في الدين الإسلامي طواعية، لأنهم كانوا على دين أهل الكتاب الذي بشر بنبي لم تنطبق صفاته إلا على محمد صلى الله عليه وسلم، الذي خصه الله سبحانه بأنه آخر الأنبياء، وعليه نزل آخر الكتب السماوية وخاتمها المهيمن عليها. كان قس بن ساعدة الإيادي الذي يحمل هذا المهرجان الكبير اسمه واحدا من أبرز حكماء العرب، وكان من أبرزهم في قومه، ومن أكثر العرب فصاحة، كان ممن يقصدون سوق عكاظ، بل كان من أبرز رواده، كان يتحدث إلى رواده بكلام لا يقوله إلا من أوتي الحكمة، حتى أصبحت خطبه، التي كان يلقيها في أكبر أسواق العرب، من القطع الأدبية الراقية المملوءة بالحكمة، داعيا في ثناياها إلى الفضيلة والورع، والصدق والأمانة. كانت تمثل إرهاصات لما كانت الجزيرة العربية على موعد معه، وهو انبلاج فجر جديد، ودين سماوي عظيم يبشر به نبي عظيم. نزل عليه قرآن في لغة عربية ذات بيان ساحر، أدهش أمة هي أكثر الأمم فصاحة، وأكثرهم اعتزازا بقوة بيان لغتهم؛ فجاء القرآن الكريم ليكون معجزة هذه اللغة، فأخذ ألباب من كان في قلوبهم شك تجاه ماكان يدعو إليه نبي هذه الأمة. كانت نجران بلدا ذا حضارة عريقة، وذات غنى وثراء عريض كان سادتها يحتلون مكانة عالية، وسمعة رفيعة عمت أخبارهم كل أنحاء الجزيرة العربية؛ فكان كبار شعراء العربية يؤمون نجران ليظفروا بأعطيات سادتها وينعموا بخيرات أرضها ويستمتعوا بمعطيات حضارتها من سماع للطرب، والتمتع برؤية الحسان من مغنيات قصور الأثرياء من السادة وعلية القوم، والارتواء بما تجود بها أرضها الخصبة من زراعة أجود أنواع الكروم، وما يستخرج منه مما لذ وطاب من أنواع الشراب. وخير دليل على ما نقول ماأورده صناجة العرب، وشاعر نجد -وحاضرتها منفوحة- الأعشى ميمون بن قيس، الذي كانت له رحلات موسمية إلى نجران، خلد تلك الرحلات ما كان يستمتع به في نجران، وينعم بأعطيات سادتها في شعره. مثل دخول نجران في الإسلام منعطفا مهما. فبإسلام أهل نجران دخل سكان جنوب الجزيرة، أفواجا، في هذا الدين. كان وفد نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يمثلون التنوع الديني الذي كان عليه سكان هذه المنطقة من مسيحيين، ويهود، ووثنيين يمثلون قمة التسامح بين الأديان. وحينما قابلوا الرسول العظيم وهو في مسجده بالمدينةالمنورة وحان وقت أداء صلاتهم سمح لهم نبي الرحمة والتسامح بأداء شعائرهم في مسجده -عليه الصلاة والسلام- ليضرب بذلك قمة تسامح هذا الدين الإسلامي العظيم مع أصحاب الأديان الأخرى. أين نحن اليوم من هذه القيم التي سنها نبينا العظيم، ليجعل من فعله ذلك قدوة لأتباع أمته إلى يوم الدين من ذلك الخلق حيث نرى التباعد والتباغض -بكل أسف- ليس فقط مع من نختلف معهم في العقيدة، بل فيما بين المسلمين أنفسهم. لقد أشاد نبي هذه الأمة -عليه أفضل الصلاة والسلام- بقس بن ساعدة ذاك الذي نجتمع في هذا المهرجان العظيم الذي يحمل اسمه. لقد استمع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى قس ابن ساعدة وهو يلقي خطاباته الشهيرة في سوق عكاظ. لم يكن يفصل بين وفاة قس ابن ساعدة وهجرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- سوى اثنتين وعشرين سنة. وذكر الجاحظ أن لقس وقومه فضيلة ليست لأحد من العرب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى كلامه وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه(1). نتجاوز المراحل المبكرة من تاريخ نجران التي ستغطى من قبل زملاء مشاركين في هذا المهرجان إلى الفترة التي أنا بصدد الحديث عنها وهي القرنين الأخيرين من تاريخ نجران ودورها ومشاركاتها في أحداث هذه الفترة. لعل أهم حدث شهدته جزيرتنا العربية منذ منتصف القرن الثامن عشر، وعلى مدى الجزء الثاني، بل حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر هو قيام الدولة السعودية الأولى، التي يعد قيامها أهم حدث يؤثر في الأوضاع السياسية والدينية في الجزيرة العربية، كما يعد سقوطها في عام 1818م حدثا آخر لا يقل أهمية عن حدث قيامها. لن ندخل في تفاصيل تأثير هذه الأحداث الكبرى إلا بقدر ما له علاقة بنجران وتأثر نجران بهذا الحدث أو تأثيرها فيه. الاحتكاك الأول بين نجران والدولة السعودية الأولى لم تشر المصادر إلى حدوث اتصال بين نجران ونجد بالشكل الذي سنأتي إلى الحديث عنه، وهو أول شكل تصادمي. من المؤكد أن هناك اتصالا بين منطقتين مهمتين نجد في وسط الجزيرة العربية، ونجران في ركنها الجنوب الشرقي، وهما منطقتان لا يفصل بينهما حاجز طبيعي، بل هما متصلتان بمناطق مفتوحة، والتواصل دائم وغير منقطع، بدليل ذهاب شعراء نجد الموسمي والدائم إلى نجران منذ الفترات السابقة لظهور الإسلام. أما في العصور المتأخرة فلعل أبرز تواصل بين نجد ونجران كان هجرة قبيلتي بني مرة والعجمان، وهما قبيلتان ياميتان هاجرتا من موطنهما الأصلي إلى نجد، واستقرتا فيه، واحدة وهي قبيلة بني مرة استقرت في جنوب شرق نجد، وأصبحت أراضيها تمتد في المناطق المحيطة بالإحساء متوغلة في الربع الخالي الذي تمتد رماله إلى مواطنهم الأصلية بالقرب من نجران. والأخرى هي قبيلة العجمان التي ربما كان انتقالها إلى نجد أحدث من قبيلة بني مرة، واتخذت من المناطق الممتدة من الخرج شرقا إلى قرب سواحل الخليج العربي تجاور كثيرا العديد من القبائل مثل مطير، وبني هاجر، وبني خالد، وكذلك قحطان وسبيع وغيرها من القبائل لم تكن علاقتها بمن جاورته من القبائل دائما على ما يرام. وبحكم حداثة هجرتها إلى الأماكن التي أصبحت تتحرك فيها فإنها كانت -وفي كثير من الأوقات- في صراع مع هذه القبائل، كعادة القبائل التي لا تكف عن الصراع فيما بينها، خاصة في غياب دولة قوية تنظم علاقات هذه القبائل بعضها ببعض. كانت قبيلة العجمان قليلة في عددها، قياسا بمن جاوروهما من القبائل؛ إلا أنها كانت قوية بتماسكها وشجاعة رجالها، من ناحية وقوة ارتباطها بقبيلتها الأم يام سكان نجران المعروفة بحميتها على أبناء جلدتها مهما تباعدت بينهم المسافات. هذا ما ظهر بشكل جلي حينما تعرضت قبيلة العجمان لهجوم مباغت من قبيلة سبيع التي تمثل الحزام الأمني لحاضرة العارض، مدعومة من قبل الدولة السعودية الأولى في بداية نشأتها، حيث ألحقت بقبيلة العجمان هزيمة كبيرة على أيدي سبيع؛ وأعتقد أنها المرة الأولى بسبب الدعم القوي من قبل أتباع الدولة السعودية الناشئة التي حاولت أن تختبر قوتها في مواجهة ربما هي الأولى مع قبيلة مثل قبيلة العجمان. انتشت قبيلة سبيع ومعها الدولة السعودية بهذا النصر، وأسروا عددا كبيرا من قبيلة العجمان، وغنموا كثيرا من أموالهم. لكن نشوة النصر لم تستمر طويلا حينما بلغ قبيلة يام في نجران ما حل بأبناء عمومتهم في قلب نجد، فما هي إلا فترة وجيزة ويعد أبناء قبيلة يام في نجران أنفسهم بقيادة زعمائهم، ومعهم داعيتهم وفقيههم السيد حسن بن هبة الله المكرمي، مسرعين إلى نجدة العجمان في جيش جرار اخترقوا به المسافات يسابقون الريح في حملة هي -فيما أعتقد -الأولى التي وصلوا فيها إلى قلب نجد، وهم واثقون كل الثقة من تحقيق النصر على عدو هو، بدوره، واثق كل الثقة من أنه من سيحقق النصر، معتمدين على قوة دولة ناشئة يملأ قلوب أتباعها إيمان وحماس منقطع النظير. كانت المواجهة في الحائر على مسافة ليست ببعيدة من العاصمة الدرعية بين قبائل يام وأتباع الدولة بمن فيهم قبيلة سبيع، كان النصر لقبائل يام، وتعرض أتباع الدولة لهزيمة مؤلمة لم تكن في الحسبان، مما اضطر حكماء الدولة السعودية -ممثلين في قيادتها السياسية- ومعهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب نفسه إلى الدخول في مفاوضات مع زعماء قبائل يام الذين قبلوا -هم بدورهم- الدخول في التفاوض. فكانت مطالب قبائل يام محدودة وواضحة فك أسرى العجمان، إعادة ما نهب من أموالهم وحلالهم، وتعويض مالي يدفع لقبائل يام. وافق الزعماء السعوديون على مطالب قادة حملة نجران. ما إن علم خصوم الدولة السعودية في كل من الحجاز بقيادة أشراف مكة والإحساء بزعامة ابن عريعر زعيم بني خالد، وكذلك ممثلي الدولة العثمانية في كل من العراق والحجاز بما حدث بين النجرانيين والسعوديين حتى تداعى خصوم الدولة رغبة في استثمار القوة النجرانية لتقويض دعائم الدولة السعودية التي أصبحت تشكل خطرا على كل هذه القوى. ولكن زعماء نجران خيبوا أمل أولئك الخصوم، ملتزمين بما تم بينهم وبين السعوديين من اتفاق، وهم قوم يلتزمون بتعهداتهم، ولكنهم أشداء على من يخلف الالتزام بالعهود، وعادوا إلى بلادهم بعد أن حققوا مطلبهم. مع أن قبائل يام التزمت بالاتفاق المبرم بينها وبين الدولة السعودية فإن الأخيرة لم تنس ما لحق بها من هزيمة ربما هي الأولى على أيدي الياميين، ما جعلها ترحب بزعماء قبائل منطقة عسير، خاصة زعماء قحطان، وشهران الذين قدموا للدرعية راغبين في الدخول إلى ما كانت تدعو إليه من العودة بالإسلام إلى نقاوته الأولى، إضافة إلى دخولهم في صراع مع أمير عسير محمد بن أحمد الذي كان يفرض سيطرته على كل منطقة عسير، ورغبتهم في التخلص من تلك السيطرة، بطلب العون من الدرعية التي تعمل – جاهدة – في نشر سلطتها على معظم أنحاء الجزيرة العربية. رأت الدرعية في قدوم أكبر زعيمين يمثلان أكبر قبيلتين في منطقة عسير لطلب التحالف معها فرصة أن تجعل من هذا التحالف سدا بينها وبين قبائل يام. تبع قبائل قحطان وشهران في القدوم إلى الدرعية الأخوان آل بونقطة محمد وعبد الوهاب زعيما قبيلة ربيعة ورفيدة من عسير، وكان قدومهما عام 1176ه/ 1763م، ومعهم بعض من علماء آل الحفظي أسرة العلم المشهورة في رجال ألمع بهدف تلقي العلم على أيدي الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من علماء الدعوة، ثم عادوا إلى ديارهم لنشر مبادئ الدعوة. بيد أنهم ووجهوا برفض شديد من قبل أمير عسير، ما جعل الدرعية تتجه إلى مساندة زعماء قحطان وشهران للقضاء على سلطة أمير عسير. وهذا ما تم؛ ولكن الأمر الدعوي ظل في أسرة أبو نقطة، ثم ما لبثت الدرعية أن عهدت بالأمر السياسي، أيضا إلى أسرة أبو نقطة، وبرز من هذه الأسرة عبد الوهاب بن عامر وابن عمه طامي بن شعيب، وأخذا على عاتقهما -بمساندة قوية من قبائل قحطان، وشهران، والدواسر وغيرهم من قبائل الوديان تربة والخرمة ورنية- مهمة إدخال كل القبائل العسيرية التهامية، خاصة، في طاعة الدرعية. ضم إمارة أبو عريش إلى النفوذ السعودي إن ضم هذه الإمارة المهمة التي تحتل موقعا مهما يعد المفتاح لنشر النفوذ السعودي على كافة السواحل اليمنية. إلا أن نقطة ضعف هذه الإمارة منذ تأسيسها في القرن السابع عشر الميلادي كان اعتمادها على قوى محاربة من غير أهل البلاد. وكانت قبيلة يام صاحبة اليد الطولى في تأمين حماية هذه الإمارة مقابل أموال سنوية تدفع لها. من هنا فقد استنجد الشريف حمود أبو مسمار بقبائل يام في الدفاع عن إمارته أمام الغزو العسيري -السعودي، وفي معركة حاسمة التقت فيها قبائل يام -مرة أخرى- مع القبائل الموالية للدولة السعودية انتهت باستسلام الشريف حمود، وتثبيته أميرا على إمارته من قبل السعوديين، وذلك في عام 1216ه/ 1802م. محاولات الدولة السعودية ومعهم عبدالوهاب أبونقطة في غزو نجران وكسر شوكة قبائل يام ظل خطر قبائل يام يشكل هاجسا تجاه توسع نفوذ الدولة السعودية إلى أقصى نقطة في شمال اليمن وجنوبه. ولذلك -بعد أن خضعت إمارة أبو عريش للسعوديين- وجهت التعليمات إلى عبدالوهاب أبونقطة بغزو نجران، وحشدت الجيوش من معظم القبائل التابعة للدولة السعودية، وزودت بالعتاد الحربي، بما في ذلك المدافع. وكانت المواجهة في المنطقة المحيطة ببدر حيث مقر المكارمة. وبعد صولات وجولات استمرت لعدة شهور تمكن اليامية من تحقيق الانتصار؛ ولم تتمكن القوات السعودية من دخول بدر ولا نجران. ولم تكن القبائل اليامية البادئة بالحرب، ولكنها استماتت في سبيل الدفاع عن مناطق نفوذها. وهكذا ظلت نجران -على مدى تاريخها- آمنة بقوة رجالها من أن تحكم بقوة غيرها، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا يرفضون الدخول في مفاوضات مع القوى الأخرى لتنظيم علاقاتهم معها؛ وقد دخلت في اتفاقية مع الدولة السعودية الأولى في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز بعد كل تلك المعارك الطاحنة. ولقد خاضت نجران حروبا طويلة على مدى عدة قرون ضد أئمة اليمن الذين حاولوا فرض سيطرتهم على نجران ولم يتمكنوا من ذلك. وقد ظل الاتفاق السعودي -النجراني الذي وقع في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز ساريا، وجدد في عهد الإمام فيصل بن تركي المؤسس الثاني للدولة السعودية الثانية عام 1279ه، بعد أن توترت العلاقات بين الإمام فيصل وشيخ قبيلة العجمان فلاح بن حثلين(1). علاقة نجران بالدولة العثمانية هناك إشارة في بعض المصادر إلى أن نجران، أو أهل نجران بالأحرى أسدوا معروفا إلى أحد الجيوش العثمانية التي كانت في مواجهات مع أئمة اليمن في فترة مايعرف بالحكم العثماني الأول لليمن في الفترة الممتدة مابين 1517-1635حينما، وجد ذلك الجيش من يضمن له الحماية أثناء انسحابه من اليمن، فلم يجد من يؤمن له تلك الحماية سوى قبائل يام الذين ضمنوا سلامته حتى وصوله إلى أحد موانئ البحر الأحمر. وقد صدر لزعماء قبائل يام فرمان شكر سلطاني لقاء هذا الصنيع. ولقد حاولت أثناء بحثي ضمن وثائق ذلك الأرشيف فلم أتمكن من العثور على ذلك الفرمان؛ ربما لأن هذا الحدث يعود إلى فترة سابقة لموضوع بحثي الذي يغطي مرحلة متأخرة. أثناء عودة الحكم العثماني الثاني لليمن الذي يمتد من 1840م – 1918م، ومحاولات الدولة العثمانية المستميتة في فرض سيطرتها على السواحل اليمنية، وعلى إمارة أبوعريش التي كان حكامها يعتمدون -كليا-على حماية قبائل يام بما كانوا يوقعونه معهم من معاهدات ومواثيق مقابل أموال يدفعها حكام تلك الإمارة التي كانتا لاتهدأ أوضاعها -غالبا-بسبب الخلافات الدائمة بين أجنحة مختلفة من أفراد تلك الأسرة؛ وكانت تلك الخلافات تؤدي إلى إثارة الفتن في منطقة حساسة وحيوية لكل من الدولة العثمانية، ولإمارة عسير التي كانت ترى أن استقرار أوضاع إمارة أبو عريش جزء من استقرارها. وكانت تتدخل في أوضاع تلك الإمارة للقضاء على ماكان يندلع فيها من فتن التي كانت قبائل يام غالبا طرفا فيها. لم تكن قبائل يام تخشى الدولة العثمانية بقدر ماكانت تخشى سطوة أمراء عسير الأقوياء، مثل الأمير علي بن مجثل، والأمير عايض بن مرعي، وابنه الأمير محمد بن عايض، وهو آخر الأمراء العسيريين الأقوياء. وكان الصراع بين إمارة عسير والسلطات العثمانية في السواحل اليمنية يدور حول عدم مقدرة الدولة على فرض حد لتدخلات القبائل الخارجة عن القانون مثل قبائل ذوحسين، وذو محمد، وقبائل يام الذين طالما وظفوا من قبل القوى المتصارعة مثل حكام أبو عريش، وأئمة اليمن. حاولت الدولة العثمانية في مرحلة من مراحل ضعفها أن توظف قبائل يام قوة تستخدمها في مواجهاتها مع إمارة عسير، إلا أنهم طلبوا شروطا اعترض عليها بعض الولاة العثمانيين. كما أن قبائل يام تعرف مدى قوة إمارة عسير؛ لهذا كانت ولا تريد أن تدخل في صراع معها؛ وحينما منعت الدولة العثمانية مرور قافلة الحج اليامية إلى الأراضي المقدسة عبر السواحل اليمنية وقع زعماء قبائل يام اتفاقا مع أمير عسير محمد بن عايض منحهم بموجبه حق المرور عبر الأراضي العسيرية بسلام، وعدم التعرض أثناء مسيرتهم لأداء فريضة الحج(1) وذلك في سنة ذي الحجة 1276ه. الغريب في الأمر هو أنني لم أجد كثيرا من الدلائل التاريخية عن طبيعة علاقة إمارة عسير بقبائل يام، خاصة خلال الفترة التي درستها بدقة وهي الفترة الممتدة مابين 1840-1872م، وحتى مابعد ذلك مع أن قبائل يام تشترك مع أكبر قبائل منطقة عسير وهي قبيلة قحطان، ونحن نعرف ولو شفهيا -نعرف-أن لقبائل يام، وقبيلة قحطان تحالفات تعود إلى فترات قديمة في التاريخ. ولقد أخبرني الأخ مسعود بن حيدر وهو مهتم بتاريخ منطقة نجران بأن لديه وثائق ومخطوطات تحكي جوانب مازالت مجهولة لدينا عن تاريخ نجران وعلاقاتها مع القوى المجاورة، خاصة مع أمراء عسير. لعل الأخ مسعود يكشف عن تلك الوثائق كي نعرف ما مازلنا نجهله من تاريخ فترات مهمة من تاريخ هذه المنطقة المهمة. كانت قبائل يام قد بنت لها علاقات مع أشراف مكة، خاصة مايتعلق بحماية حجاج نجران أثناء فريضة الحج؛ وكذلك أثناء انتقالهم من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وإصدار أوامره إلى قبيلة حرب بعدم التعرض لهم. علاقة نجران بالعثمانيين بعد سقوط إمارة عسير وسيطرة العثمانيين على اليمن عام 1288ه/ 1872م. لم تحاول الدولة العثمانية بعد بسط سيطرتها على عسير واليمن عام 1872م أن تبسط سيطرتها بشكل مباشر على نجران، كما فعلت مع بقية المنطقة، بل تركته على حاله تحت نفوذ زعاماته المحلية. ولكن على مايبدو فإن النجرانيين لم يحاولوا أن يحتكوا بالدولة العثمانية، أو يدخلوا في مساندة من كانوا يثورون ضدهم، سواء في اليمن أو عسير. وظلت نجران كذلك إلى حين خروج العثمانيين من اليمن وعسير بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى. أدى دخول المنطقة في مرحلة تاريخية مهمة بعد الحرب العالمية الأولى، ونشوء كيانين سياسيين كبيرين في الجزيرة العربية هما المملكة العربية السعودية، والمملكة المتوكلية اليمنية وإلى أن تكون نجران في موقع لاتستطيع فيه أمام هذه التطورات السياسية أن تبقى على الحياد، أو أن تقيم لنفسها نظاما أو كيانا سياسيا خاصا بها؛ ولم يكن أمامها إلا أن تقرر مصيرها وحقها في الاختيار إلى أي من الطرفين تنحاز؛ يمنحها حق الاختيار هذا ماضيها الطويل من الاستقلال؛ فقررت الأغلبية من الزعامات النجرانية أن من مصلحتها أن تنضوي تحت كيان كبير هو المملكة العربية السعودية، فدخلت في مفاوضات طويلة مع الملك عبدالعزيز -رحمه الله-. ولكن إمام اليمن، بحكم قرب موقع نجران الجغرافي من بلاده أراد أن يضم نجران بالقوة إلى حكمه، متناسيا أن قبائل نجران ليسوا من السهولة التي يمكن من خلالها أن يضمهم أحد بالقوة تحت نفوذه. وتناسى إمام اليمن أيضا معطيات التاريخ من عدم قبول النجرانيين بفرض أي هيمنة يمنية على بلادهم. حاول الملك عبدالعزيز أن يتجنب الحرب مع إمام اليمن حول نجران، وأنه ينبغي على الإمام أن يحترم إرادة أهل نجران، وعلاقة نجران الطويلة مع الدول السعودية المتعاقبة. إلا أن الإمام أقدم على غزو نجران بقوة ضاربة، متناسيا أن نجران ليست من البلدان التي تغزى بالقوة، أو تضم بالقوة؛ فانبرى أهل نجران لمجابهة الغزو اليمني الذي أمعن في تدمير أجزاء كبيرة من مدن وقرى ومزارع نجران، ودخلت قوات الملك عبدالعزيز، بقيادة ابنه وولي عهده الأمير سعود بن عبدالعزيز وابن أخيه الأمير خالد بن محمد بن عبدالرحمن إلى جانب أهل نجران لتحريرها من جيش الاحتلال اليمني. وقد وجه الملك عبدالعزيز أوامره بأن تكون معظم القوة السعودية التي تضطلع بتحرير نجران من قبائل العجمان، وبني مرة وهما من أهم قبائل المملكة وتربطهما الرابطة القبلية مع أبناء عمومتهما قبائل يام. وبضم نجران عام 1353ه اكتملت وحدة المملكة العربية السعودية، وأصبحت نجران واحدة من أهم دعامات الوحدة السعودية المباركة؛ وستظل كذلك إلى الأبد بحول الله وقوته. = محمد بن عبد الله ال زلفة عضو مجلس الشورى السابق صحيفة الجزيرة