يقر زياد الرحباني بأكثر من أمر حيال ما نطلق عليه الموهبة ومصادرها وإمكانياتها، فهو يؤكد أمورا أربعة تخص "صناعة الفنان"، وهي: أولاً، فكرة الاستعداد الفطري عند الإنسان، وثانياً كمون القدرة والاستجابة للقيم والمبادئ والأفكار، وثالثاً، دورالتعلم والتدريب والممارسة في الإنتاج الثقافي إن كان أدباً وإن كان فناً، ورابعاً، التواصل الماورائي بين الإنسان والطبيعة حيث يستجيب إلى مرسلاتها لتمكن أجهزته من الالتقاط ومنها لإعادة إنتاج ذلك بصورة إبداعية. وهذا ال زياد الذي ولد في بيروت، في وسط عائلة تعمل في المجال الثقافي وهي عائلة مكونة من والدته فيروز وخالته هدى ووالده عاصي وعمه منصور بالإضافة إلى جموع كبيرة تعمل ضمن ما يطلق عليه تجاوزاً "المؤسسة الرحبانية" دون أن نجهل الدور الكبير لمشاركة مواهب كبيرة في العزف مثل بوغوص جلاليان الذي تعلم على يد زوجته العزف على البيانو لاحقاً، والملحن فيلمون وهبي، والمغني والممثل جوزيف صقر ومروان محفوظ والمغنية جورجيت صايغ وكثير وكثيرات.. ويعرف أن المصادر الموسيقية والغنائية المتعددة مؤثرة في المدرسة الرحبانية سواء الموروث الريفي اللبناني، وموسيقى وتراتيل الطقس السرياني والبيزنطي، وموسيقى وغناء المدرسة الشامية العراقية (مع فصل الأثر الآسيوي عن الثانية وإدراك الرافد الأساسي للأولى في القاهرة والاسكندرية)، وموسيقى وأغاني الأوروبية (الحالة المتوسطية الفرنسية والإيطالية) بالإضافة إلى الموسيقى الآسيوية (الحالة السلافية الروسية). ومن كل هذه المصادر أو التكوينات أطلق الأخوان رحباني ما عرف لاحقاً ب"الظاهرة الرحبانية" بقدر ما أنتجت أعمالها العظيمة أنتجت معضلاته الكبرى: ثنائية الشرق –الغرب (أعمال الخمسينيات: الترجمات الغنائية)، ونزعة اللبننة (أعمال الستينيات: النزعة الريفية –البدوية وتلفيق المواضيع التاريخية)، والتجارة الغنائية (البرامج الغنائية مع مواهب جديدة في السبعينيات والثمانينيات) –ولا شأن لتجربة منصور الرحباني بحديثنا هذا-، وأتاحت مشاركة زياد الرحباني ضمن هذه المؤسسة- في بداياته فقط- بشكل مبكر سواء عازفاً أو ممثلاً أو ملحناً لاكتشاف قدراته واختبار إمكانياته والتدرب على المهنية العالية التي كانت لدى الأخوين رحباني من إدارة فرقة موسيقية ومسرحية ومجاميع غنائية وفرقة رقص شعبي. وما يلفت أن زياد من خلال أعماله المبكرة لم يكن رحبانياً فقد كانت له روافده الموسيقية الخاصة وهي متعددة بالإضافة إلى محاولته بناء مسيرة مستقلة، وهو ما نجح به إلى حد بعيد جداً. إذ يلفتنا محاولته الفكاك من هيلكة الأغنية الرحبانية ذات المعضلات التي ذكرناها مثل ثنائية الشرق –الغرب، وهي لم يرثها الأخوان رحباني من محمد عبدالوهاب بل هي تيار تثاقفي وقع بين حالة الاستعمار والاستلاب الثقافي في كل بقعة عربية حيث يتواجد المستعمر بثقافته أو ثقافة المهاجر إلى البلدان العربية. فقد تجاوز زياد تلك الثنائية النازعة إلى الازدواج أو الانفصام الثقافي بتطلبات صوت فيروز حين قدم "قد ايش كان فيه ناس" (مسرحية ناس من ورق 1972) أو "حبوا بعضن" (مسرحية ميس الريم-1974) أو " وحدن" (مجموعة غنائية حملت الأغنية اسمها 1976)، وهو ما يكرسه عبر تيار الغناء التثاقفي عبر تيار التعبيرية الزيادية الدامجة بين الغناء الدرامي العربي والإيقاع اللاتيني في أعمال شكلت العصب الأساسي لأغاني مجموعات فيروز "معرفتي فيك-1987، كيفك إنت-1991، ولا كيف-2003، وإيه فيه أمل2010" على سبيل الإشارة مثل "خليك بالبيت، عندي ثقة فيك، أنا فزعانة، الله كبير، كبيرة المزحة هاي..".