ليس الابداع في معناه الخلفي وجوهره الخلاق محاولة لتطويع الحس الانساني. ليس هو كذلك، بل في أقاصي ذاتيته يكمن معنى رفضوي جبار لا يلبث أن يتحول مع الزمن الأبعد للحظة الآنية سوى علامة من علامات البروز الاجتماعي الرؤيوي. وهو في عدةٍ من جوانبه محط تأثير الصدمات في المخيلة الجماعية للمتلقين له. خاصة، حين يصبح الابداع جزءاً يسيرا من مكونات الشارع في محتوياته الشارعية المحضة. على حد تعبيرات امانويل كانط الأخلاقية قبل حوالي أربعة قرون ناجزة من الزمن. والحق أن بيروت في بعدها الرمزي كمدينة، هي مدينة شارعية بانحيازها المجتمعي المتكامل نحو استخدام الشارع لأغراض تتعدى مجرد كونه شارعاً يحرض على المشي والمظاهرات التي تحولت عند بعض الناس الى هواية ترفيهية. بامتياز من يجعل من شتم الاستبداد هواية تخلصه من عقده وأمراضه المزمنة، ومن يجعل من المطالبة بالحرية والديمقراطية شعاراً زائفاً يستغله في بعض المشي لزوم الرياضة التي لا تتحقق سوى من خلال اقصاء عوامل الكسل الفطري المتحكم بسكان المدن. وبالعودة الى نقيض الاستبداد ما يحيل الشارع الى وظيفة بديهية وهي أنه المكان الأكثر تعرضاً في التاريخ القديم والمعاصر الى وظائف الاستبداد. اذ يمكن ببساطة فهم أو ادراك أن الشارع كان ولم يزل المحرك الأول لمعارضة الاستبداد. اذا، يخيل الي أننا هنا أمام ظاهرة فريدة تحمل في طياتها أبعاداً انسانية ذات غايات نبيلة المقصد ونادرة للاستبداد. اذ هو في حالات تحريك الشارع وتأليبه ضده يقدم خدمات انسانية تحمل المشاعر المتعاظمة الى التحرك ضده. وفي ذلك يكون الاستبداد وهو النقيض للمجتمع الديمقراطي السبب الأول والرئيس لانشاء مكونات المجتمعات المدنية وذلك عبر التاريخ. كالمظاهرة التي خرجت الى كاليغولا تطالبه بالعودة عن قراره اغلاق مخازن الدقيق في مملكته كما صوره ألبير كامو في مسرحيته الشهيرة التي حملت الاسم نفسه أي كاليغولا. وهذا سبق التحركات الشارعية في باريس الستينات مع جان بول سارتر ورفاقه في أول علامات تحديد وظائف الشارع في التاريخ الفرنسي المعاصر بعد أن كان التحرك يتم ضمن البرلمان يوم أعلن بروسبيير مصادرة الأراضي التي تمتلكها الكنيسة وضمها الى أملاك الدولة العام 1905. وهو - أي الاستبداد - في حالات قتله للبشر أيضا يقدم لهم خدمات جليلة بأن يخلصهم من عذابات الحياة ومن الكسل المتحكم فيهم. واذا كان هذا الكلام يتجاوز تطويع الشارع وسكانه واجبارهم على قراءة الشعر اللوركوي، نسبة الى «غابرييل غارسيا لوركا» الاسباني الذي قتله استبداد حكم فرانكو التوتاليتاري. فان له دلالات يختص بها الشارع دوناً عن غيره من الأزقة والزواريب التي تحمل في أبعادها الشارعية المدينية دوراً أكبر من مجرد اعلان الكلام والمجاهرة به. بل هي في دورها المناقض للجهل والاستبداد معاً تلعب دور المخبأ الأمين حيث يخفت الكلام ويذوب ويتلاشى الشارع ودوره العلني. في بيروت، لا يدهش المرء حين يجد أن مكونات الشارع هي أكثر مرونة من أي شارع آخر بسبب التعدد الطائفي والحزبي والاثني. فالشارع في بيروت، له، من ضمن الخصائص المعطاة، الأولوية في تحريك الغرائز التي غالبا ما تكون غير عشوائية. وهي حين تكون عشوائية تتحول مع الوقت الى ما يشبه التركيز على نقد الكلام بكلام مثيل له. أي استعمال كلام النوافل في قضايا قد تكون غير نافلة. والمقصود هنا، بالتحديد، الشعارات الشارعية التي تستخدم للتدليل على قضايا هي من قبيل الموت الأقرب الى تحريك حياة الغرائز بدل التركيز على ما هو أبعد رمزيا في تحويل المدينة الى واحة كلام مفيد أو ذات مدلول نهضوي وانساني صميم. والدهشة تأتي في شوارع بيروت، بالدرجة الأولى من الانخراط العضوي الذي يمثله الشارع بالنسبة للسكان من جهة وللقاطنين فيه من جهة ثانية. فلا تجد على سبيل المثال في بيروت، سائق تاكسي واحدا أو بائع علكة أو بائع لأوراق الحظ، لا ينصب نفسه محللاً استراتيجيا في السياسة والاقتصاد والمجتمع، داخلا في دهاليز هذه الأقانيم بدراية ومن دون دراية في غالب الأحيان. فهو يلعن الدولة لأنها على مايقول «الكثير من سائقي التاكسي والباعة» لا تنصف المظلوم ودوماً تقف في وجه العدالة الاجتماعية المتمثلة بالاقتصاد. ويلعن أو يشتم المجتمع لأنه «الأقلية من سائقي التاكسي والباعة» لا يحافط على أنقى مكونات الشارعية التي هي التحرك لنصرة الأهداف السابقة، وأنه، أي المجتمع، لا يقدر سوى على الكلام. وأن المسألة كلها في نهاية الأمر كلام بكلام. عوضاً عن ذلك لا يخلو تحليل هؤلاء مجتمعين من النقمة الظاهرة في المفردات والنبرة الصوتية التي ترتفع وتنخفض بحسب حدية الموضوع وفي أحيان كثيرة يلعب الركاب أو الزبائن الدور الأبرز فيها. اذ يستمزج السائق ومعه البائع ركابه وزبائنه ليلج الموضوع المناسب الذي يعتقد أنه يتناسب مع هواهم الفكري أو الفطري. وبيروت بهذا المعنى مدينة شارعية، وهي تحتوي عطفا على المعنى نفسه، مئات الآلاف من المحللين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين والنفسيين يعيشون في شوارعها معتمدين في نقد النقد على شعارات ترفع في الشوراع للتدليل على القضايا التي يعتبر أصحاب اليافطات المعلقة أنها هي القضايا المصيرية، أو قضاياهم المصيرية. هذا العام، عمل المنظمون لمهرجان عروض الشارع البيروتية على تفنيد واقع مكشوف بحكم وجوديته في الشارع. فعملوا على نشر يافطات بيضاء ومتواضعة وبالغة الهشاشة مقارنة بغيرها من اليافطات، كتب عليها عبارات من أشعار الأسباني غابرييل لوركا الذي يعتبر من أكثر الشعراء المقاومين للاستبداد وسلطة الغباء وسيادة الجهل. «قد يذكر البحر فجأة أسماء كل من ابتلعهم في أحشائه - لوركا» أو في شارع آخر «جمهرة من الناس ينوحون ويشقون ملابسهم في انتظار الرصاص - لوركا» أو في شارع مواز آخر لشارع الحمرا الرئيسي (سجن رائع بابه القمر - لوركا ). وهكذا، ما أن تدلف من الشارع الرئيسي الى شارع مواز حتى يقابلك لوركا بأشعاره فارضا عليك، أن المتجول، من سائق التاكسي وحتى أعلى السلطات أن تقرأه بشيء من التمعن والاستغراب. والمستغرب في تعليق لوركا ليس تعليق أشعاره على أعمدة كهرباء بيروت وفي وسط شوارعها. بل الطريقة التي علقت بها هذه اليافطات. جمهرة من الشبان يلبسون الأقنعة والكوفيات غير الرسمية «مكونة من عدد كبير من الألوان» يتسلقون الأعمدة الكهربائية في الشوارع يعلقون لوركا وكلماته المدوية منذ مئة عام ويهربون صانعين لأنفسهم طقسا يوازي الهرب الى الأزقة والزواريب. كأن لا كلام يوازي حضرة الشعر وقدرته على التأثير في المارة. عمل جماعي هو هذا العرض، ولكنه فكرة جنيد سري الدين الذي عمل مع مجموعة من رفاق المسرح على تكوين معنى غير سياسي وغير طائفي وغير اثني للمدينة التي غرقت شوارعها في الهم السياسي خاصة هذا العام. وهي كذلك لا تزال تعيش على ذاكرة الحرب التي عاشتها في الكثير من النقاشات الفردية والجماعية. بيروت اذا تعيش، وهي تعيش ليس على حاضرها الملآن بالسياسة والتحقيقات البوليسية والاقتصادية وغير ذلك، وهي تعيش ثقل الهموم الحياتية الضاغطة والنزق والميوعة في التعبير. وهي تعيش مع فكرة جنيد سري الدين فكرة لم تخالط السياسة في يوم ما. فالشعر الذي يعتبر كلاماً نخبويا في العادة أصبح رفيق سائقي التاكسي والمارة الذي لا يعبأون عادة لا بالشعر ولا بالثقافة. اذ لكل منهم نمطه الثقافي وقدرته الخاصة على التعبير القويم عن حالته الفكرية والفطرية في آن معاً. تمشي في الشوارع البيروتية، لا تتنزه في الشعارت القومية والسياسية والحزبية والطائفية. بل تقرأ لوركا. هذا حقاً تعبيراً لا عن الأستبداد في معناه السياسي الطغياني. بل عن استبداد الجهل المتحكم بالعوام. كأن تجلس الى جانب سائق تاكسي ويسأل هل لوركا سياسي جديد أو أنه حزب تأسس حديثاً؟!.