يذكر أبو الحسن بن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ، 7/213) من ضمن أحداث سنة إحدى وستين وثلاث مئة تحت عنوان(ذكر الفتنة في بغداد) أنه" وقعت ببغداد فتنة عظيمة، وأظهروا(يعني الشيعة والسنة) العصبية الزائدة، وتحزب الناس، وظهر العيارون(= دعائيو السنة والشيعة)، وأظهروا الفساد وأخذوا أموال الناس، فنهبت الأموال، وقتل الرجال، وأحرقت الدور، وفي جملة ما احترق محلة الكرخ، وكانت معدن التجار والشيعة". ويعود ابن الأثير فيذكر عن احتراق حي الكرخ الشيعي في بغداد مرة ثانية في السنة نفسها، وما ترتب على حريقه من قتل آلاف الأنفس وإحراق الدور والمساكن فيقول:" في شعبان من هذه السنة احترق الكرخ حريقاً عظيماً، فركب الوزير أبوالفضل لقتال العامة بالكرخ، وكان شديد العصبية للسنة، فألقى النار في عدة أماكن، فاحترق حريقاً عظيماً، وكان عدة من احترق فيه سبعة عشر ألف إنسان، وثلاثمائة دكان، وكثيراً من الدور، وثلاثة وثلاثين مسجداً، ومن الأموال ما لا يحصى". أقول: لنتصور حجم المأساة، في دورة واحدة من دورات الجحيم الطائفي بين الشيعة والسنة، أزْهِقتْ سبعة عشر ألف نفس من الأنفس المعصومة قرباناً لشعارات سياسية، اخترعها فاعلون سياسيون لأجل مكاسب سياسية فحسب! إن الضوء النقدي الذي ننشده هنا هو ضوء التاريخ، ضوء العقل، ضوء المنهجية الفيلولوجية التاريخية. إن قدر لنا أن نفعل ذلك يوماً ما، فستنكشف لنا تاريخية تلك النصوص والأحداث التي سُيجت بغلاف تقديسي سميك، وأنها إرث تاريخي اجتماعي، أنتجه فاعلون اجتماعيون، تأثراً بظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفي سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، وفقاً لابن الأثير أيضاً،" وقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة، وحَمَل أهل سوق الطعام، وهم من السنة امرأة على جمل وسموها عائشة، وسمى بعضهم نفسه طلحة، وبعضهم الزبير، وقاتلوا الفرقة الأخرى، وجعلوا يقولون: نقاتل أصحاب علي بن أبي طالب، وأمثال هذا الشر". لنلحظ هنا كيف يستحضر طائفيو الجماعتين في كل زمان ومكان الرموز التاريخية، سواء رموزهم أم رموز خصومهم، من أجل إضفاء طابع صدامي نزق على نزالاتهم المذهبية! أما أبو الفداء الحافظ بن كثير، فيذكر في كتابه(البداية والنهاية، 12،11/331) ضمن أحداث سنة إحدى وستين وثلاث مئة من الهجرة، وتحديداً في يوم عاشوراء، أن" فتنة شديدة وقعت بين الشيعة والسنة، فأحرقتِ السنةُ دورَ الشيعة بالكرخ وقالوا: الشر كله منكم، وصار العيارون ببغداد يأخذون أموال الناس". ويؤكد ابن كثير نفس حادثة احتراق حي الكرخ الشيعي في بغداد في السنة التي تلتها، والتي ساقها ابن الأثير قبله، فيقول:" وفي هذه السنة احترق الكرخ، وكان سببه أن صاحب المعونة ضرب رجلاً من العامة فمات، فثار به العامة، فهرب منهم فدخل داراً فأخرجوه مسحوباً وقتلوه وحرقوه، فركب الوزير أبو الفضل الشيرازي، وكان شديد التعصب للسنة، وبعث حاجبه إلى أهل الكر، فألقى في دورهم النار، فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال، من ذلك ثلاث مئة دكان، وثلاثة وثلاثون مسجداً، وسبعة عشر ألف إنسان". أما في سنة ثلاث وستين وثلاث مئة، ووفقا لابن كثير أيضاً، فلقد "عملت فيها البدعة الشنعاء على عادة الشيعة، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والشيعة". وبشهادة ابن كثير نفسه، وهو سني لا يماري أحداً في سنيته، فإن "كلا الفريقين(أي السنة والشيعة معاً) قليل عقل، بعيد عن السداد"، ويستدل ابن كثير على رأيه بضعف عقول الطائفيين من الطرفين، بالإضافة إلى ما ساقه من أحداث جسام جرت بين الطائفتين، بما بلغته الحماقة بمتطرفي السنة آنذاك، عندما أركبوا امرأة جملاً وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير وقالوا: نقاتل أصحاب علي بن أبي طالب، استحضاراً لمشهد موقعة الجميل، فقتل من الفريقين خلق كثير، وعاثت العيارون في البلد بالفساد ونهْبِ الأموال وقتْل الرجال، وهي الحادثة التي ساقها ابن الأثير. تلك الحوادث ومثيلاتها، لمّا تزل تجري في تاريخ الصراع بين الشيعة والسنة منذ ما ينيف على ألف سنة، كنسق اجتماعي ثابت، ليس فيه من متغير اللهم إلا الأدوات المستخدمة في النزالات. فلقد استخدم الطائفيون الجدد، والعيارون المعاصرون، القنبلة والحزام الناسف والرشاش والمسدس، بدلاً من السيف والخنجر. طوال سني الصراع الطائفي المرير بين الشيعة والسنة، لم يكن ثمة كوابح جادة لردع هذا النزق المذهبي، اللهم إلا إسداء المواعظ من قبل بعض عقلاء الطائفتين، أما الحفر الأركيولوجي التاريخي في الأسس الفكرية التي زرعت هذا النزق، ولا تزال تمده بأسباب الحياة، فلا نزال بعيدين عنه. نحن اليوم بالذات بحاجة ماسة إلى تجربة مجال صعب وعصي على ثقافتنا، ألا وهو النقد التاريخي للنص. والنص الذي أقصده هنا هو النص التاريخي الذي شكّل نسق الطائفية الشيعية السنية. لقد تشكلت تلك النصوص وقُرِئتْ، ولما تزل تقرأ من منظور تقديسي بحت. فكل من الطائفتين يعتقد جازمًا أن الأحداث التاريخية التي حدثت في الماضي، وشكّلت هوية التشيع والتسنن، إنما هي أوامر ونواه مؤيدة من عندالله ورسوله، وأن الآخر اعتدى عليها، أو لم يتبعها ظلماً وعدواناً، وربما حسداً من عند أنفسهم! لو عمقنا النظرة في التفصيلات التاريخية الأولى التي شكّلتْ الهوية المذهبية للطائفتين، لوجدنا أنها غُلّفت، بمرور الوقت، وعدم وجود نقد تاريخي جاد، بغلاف سميك من التقديس، فلم تعد قابلة لنقدها جذرياً إلا بواسطة عمليات جراحية خطيرة! كل من الطائفتين يروي من الأحاديث والآثار، سواء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن مراجعه وأئمته، ما يؤكد على أنه على الحق، وأن خصمه على ضلال مبين. القرآن وهو الذي يجب أن يكون مرجع الطائفتين، ليس فيه ما يؤيد زعم أي منهما، إذ يقول الحق تعالى:"هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس"، ولم يسمهم يومئذ شيعة أو سنة. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ شيعياً أو سنياً، بقدر ما كان مسلماً حنيفاً يردد على مسامع أصحابه:" من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". فلم يقل يومئذ: لكي تكون مسلماً حقاً فعليك أن تكون شيعياً أو سنياً، أو تؤمن بحق علي أو بحق أبي بكر في الخلافة، أو أن تبكي وتلطم الخدود وتشق الجيوب على الحسين وأهله كل ما مرت ذكرى قتلهم في عاشوراء! كل الأحداث التاريخية الكبرى التي بلورت الماهية الشيعية والسنية، بدءاً من حدث السقيفة، مروراً بفتنة حصار عثمان وقتله، والخلاف بين علي ومعاوية، وموقعة الجمل وصفين، وتنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، وموقعة الحرة، وخروج الحسين بن علي بأهل بيته لمقاتلة يزيد، وقتْله في معركة كربلاء، يجب إعادة زرعها في التاريخ، لكي يتبين أنها إنما كانت أحداثاً تاريخية دنيوية تولى كبرها فاعلون اجتماعيون. ومن ثم، فإن أكبر ما قد يقال فيها: إنها اجتهادات تاريخية، إن أصابت مرة، فلقد أخطأت مرة أخرى. لا بد من تسليط أضواء النقد التاريخي على كل الأحاديث والمرويات التي تحاول تغليف تلك الأحداث بغلاف مقدس، سواء من قبل الشيعة أم من قبل السنة. والنقد التاريخي لن يكون بالاعتماد على آلية السند والعنعنعة، فلكل من الطائفتين منظومته في الجرح والتعديل التي لن ترضى أن تحتكم إلى منظومة الآخر. إن الضوء النقدي الذي ننشده هنا هو ضوء التاريخ، ضوء العقل، ضوء المنهجية الفيلولوجية التاريخية. إن قدر لنا أن نفعل ذلك يوماً ما، فستنكشف لنا تاريخية تلك النصوص والأحداث التي سُيجت بغلاف تقديسي سميك، وأنها إرث تاريخي اجتماعي، أنتجه فاعلون اجتماعيون، تأثراً بظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالجملة: ائتماراً بأمر السياق التاريخي الذي كانوا يعيشون فيه، ويعملون لحسابه. ومما ستكشفه تلك القراءة التاريخية أن الصراع السني/الشيعي كان في البدء صراعاً سياسياً بين حزبين سياسيين، وأن أحد ذانك الحزبين، وهو الحزب الشيعي، عمد، بعد أن هزم سياسياً، إلى تغليف صراعه مع الحزب السني بغلاف عقدي سميك، فلم يكن أمام الحزب السني إلا أن يلجأ هو الآخر، وكردة فعل تحصينية، إلى تغليف علاقته مع الحزب الشيعي بغلاف عقدي أيضاً. كما ستكشف لنا أننا اليوم ورثة صراع سياسي دنيوي، لا ناقة لنا فيه ولا جمل، لكنا أُلْهِمناه وعُرِّفناه ودُرِّسناه على أنه صراع عقدي تفترق على ضوء معرفته سبل الهداية من الغواية! هكذا نساهم بدور فعال في حل مشكلة الطائفية المزمنة، وما يترتب عليها من إزهاق للأنفس البريئة، وتدمير للممتلكات، وتشظ للعلاقات الاجتماعية، وتوطين للتخلف بكافة مظاهره. أما الاعتماد على الوعظ وحده، بالتشديد على أن هذا أو ذاك من أشكال الصراع الطائفي، ليس من الإسلام في شيء، أو أنه من صنع الأعداء، أو المتطرفين من الطائفتين، فهذا لن يفيد في شيء. لقد جُرِّب هذا طيلة عمر الصراع الطائفي بين الشيعة والسنة من قبل عقلاء عديدين من الطائفتين، فلم يؤت يومئذ أكله، ولن يؤتيه مستقبلاً، لأنه لا يمس أصل الداء الذي يمد الجرح النازف بالصديد، وإنما يداوي الأعراض الخارجية ببعض الأدوية التي لا تلبث أن تنتهي فاعليتها دون أن تمس الجرح من داخله! لمراسلة الكاتب: [email protected]