كان من تطلق عليهم مصادرنا التاريخية اسم «عياري بغداد» بمثابة أبواق دعاية لفتح أبواب الجحيم الطائفي كلما خبا أواره. وكان لكل من الشيعة والسنة حينها عيارون خاصون بهم. كان العيارون يبدأون قرع أجراس المصادمات الطائفية بالإساءة إلى الرموز التاريخية للمذهبين كنت قد أشرت, في الجزء الأول من هذا المقال, إلى نماذج من فصول الصراع المذهبي الدامي بين الفصيلين الرئيسيين في الديانة المسيحية: البروتستانت والكاثوليك, واليوم أستعرض نماذج مما جرى من حروب مذهبية بين الفصيلين الرئيسيين الإسلاميين: السنة والشيعة, لنرى كيف أن التعصب واحد، ونتائجه متشابهة، وإن اختلف الزمان والمكان والدين والمذهب. ثمة من يجادل بأن ما جرى من حروب مذهبية بين البروتستانت والكاثوليك, لم يكن إلا وضعاً مسيحياً خاصاً, سببه احتكار الكنسية الكاثوليكية الرومانية للسلطتين: الزمنية والروحية, وطالما أنه لا كنيسة في الإسلام, فليس ثمة داع للتوجس خيفة من صراع مذهبي بين المسلمين, على غرار ما جرى في المسيحية, فهل لهذا الزعم أساس من التاريخ؟ لعل في الأسطر التالية ما يمكن أن يجيب على هذا السؤال. يؤكد ابن خلدون في مقدمته, وهو يحلل وضع الحضارة العربية الإسلامية إلى عهده, على أن "الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء". ويبدو لي أن ذلك ينطبق بشكل أوضح على الصراع السني/الشيعي, وبالتالي فالعودة إلى ماضي ذلك الصراع, منظوراً إليه بشكل خاص, من ناحية العناصر والمقولات الذي كانت تذكيه, ستعطينا دلالة على أن حاضر ومستقبل الصراع الشيعي السني سيكون أشبه بماضيه من الماء بالماء, إن لم يتداركه عقلاؤهم بمثل ما تداركه به نظراؤهم في الغرب. ولعل من المناسب أن نقرأ نتفاً من ذلك الصراع, من خلال ما سجلته المدونات السنية الأبرز, مثل( الكامل في التاريخ) لابن الأثير, و( البداية والنهاية) لابن كثير, و( المنتظم في الملوك والأمم) لابن الجوزي. فمن ذلك ما حدث في السنوات التالية: في رمضان من سنة ( 362ه) احترق الحي الشيعي في بغداد, والمعروف باسم " الكرخ" حريقًا عظيمًا. وسبب ذلك أن الوزير أبا الفضل أرسل حاجبًا له يسمى صافيًا في جمع لقتال جناة من عامة أهل الكرخ, وكان شديد العصبية للسنة, فأشعل النار في عدة أماكن من الكرخ فاحترق حريقًا عظيمًا. وكان عدد من احترق فيه, سبعة عشر ألف إنسان, وثلاثمائة دكان, وكثيراً من الدور, وثلاثة وثلاثين مسجدا, ومن الأموال ما لا يحصى. في محرم من سنة ( 405ه), قُتِلتْ الشيعة بجميع بلاد إفريقية. وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس اجتاز بجماعة فسأل عنهم فقيل: هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر, فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر! فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلى من القيروان, وهو حومة تجتمع به الشيعة, فقتلوا منهم خلقاً كثيرا, وأغراهم عامل القيروان وحرضهم, فقُتِل من الشيعة خلق كثير, وأحرقوا بالنار, ونهبت ديارهم, وقتلوا في جميع إفريقية. واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور, قرب القيروان فتحصنوا به, فحصرهم العامة وضيقوا عليهم, فاشتد عليهم الجوع فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قُتِلوا عن آخرهم, ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم. في سنة (407) وقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة بواسط, فانتصر أهل السنة, وهرب وجوه الشيعة والعلويين. في سنة (408) وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والشيعة, قتل فيها خلق كثير من الفريقين. وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ من الشيعة وبين غيرهم من أهل السنة. في سنة 422ه تجددت الفتنة في بغداد بين الشيعة والسنة, وسبب ذلك أن الملقب ب "المذكور" عقد العزم على الغزو فاجتمع له خلق كثير, فسار واجتاز باب الشعير والحراني وبين يديه الرجال والسلاح, فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر, وقالوا: هذا يوم معاوية, فنافرهم أهل الكرخ, ورموهم وثارت الفتنة, وقصد رجالُ المذكور الكرخَ فأحرقوا وهدموا الأسواق, وأحرق وخرب في هذه الفتنة سوق العروس, وسوق الصفارين, وسوق الأنماط, وسوق الدقاقين. من جهة أخرى, كان من تطلق عليهم مصادرنا التاريخية اسم "عياري بغداد" بمثابة أبواق دعاية لفتح أبواب الجحيم الطائفي كلما خبا أواره. وكان لكل من الشيعة والسنة حينها عيارون خاصون بهم. كان العيارون يبدأون قرع أجراس المصادمات الطائفية بالإساءة إلى الرموز التاريخية للمذهبين. حيث يقوم عيارو الشيعة مثلاً, بالانتقاص من الرموز السنية، فيرد عليهم عيارو السنة الإساءة بمثلها، لتبدأ دورة جديدة من الصدامات المروعة. وباختصار فقد كانت المهمة الرئيسية للعيارين، " إشعال نار الفتنة كلما واتتهم الفرصة، ليجنوا المزيد من الغنائم جراء نهب الدور وإحراقها. وكثيراً ما كانوا يتولون، من الجهتين ، قيادة الاحتفالات التذكارية مما كان يعطيها بالضرورة طابعاً صداميا". ومما كان يزيد النار الطائفية إذكاءً أن الفريقين كانا يوكلان أمر قيادة المناسبات الدينية لكل منهما إلى أولئك العيارين, لإعطائها طابعاً راديكالياً منذ البداية. ورغم أن كلتا الطائفتين مسلمتان إلا أن مناسباتهما كانت مختلفة من حيث التوقيت والمكان ونوعية الطقوس. وكان أبرزها بالنسبة للشيعة يوما عاشوراء وغدير خم. أما السنة فقد قاموا من جهتهم، كما يقول جورج مقدسي في كتابه(ابن عقيل وانبعاث الإسلام السلفي في القرن الحادي عشر)، "بتأسيس عيدين يعقب كل منهما يوم عاشوراء ويوم غدير خم بثمانية أيام, هما: زيارة قبر مصعب بن الزبير، والاحتفال بيوم الغار". وكان لا بد، نتيجة للطابع الغوغائي الصدامي الذي تتسم به قيادة العيارين لتلك المناسبات، أن يحف بها مصادمات بين الفريقين, تتحول في الغالب إلى قتال شوارع. أما استحضار الرموز التاريخية للفريقين فقد ظل حاضراً في المشهد الصدامي في السابق, كما في الحاضر. وهي، أعني الرموز، إذ تُستحضر، قديماً وحديثًا، وفق سيناريوهات مختلفة، فإن ما بقي ثابتاً في عامل استحضارها هو أداؤها لدورها الراديكالي في إذكاء روح النزق الطائفي المميت. فمن مشاهد حضورها في السابق, ما يرويه ابن كثير على هامش أحداث سنة ثلاث وستين وثلاثمائة للهجرة أن "جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة جملاً وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقالوا: نقاتل أصحاب علي(...)، فقتل بسبب ذلك من الطرفين خلق كثير!". وبطبيعة الحال، فإن متطرفي الشيعة لم يتركوا الإساءة السنية تمر دون أن يردوا عليها بأسوأ منها, أو بمثلها على الأقل، ولذلك, انبروا يكتبون على أبواب مساجد بغداد: " لعنة الله على معاوية, لعنة الله على من غصب فاطمة حقها من فدك، لعنة الله على من منع الحسن أن يدفن مع جده, لعنة الله على من نفى أباذر!". ولقد يحسن بي أن أعود إلى تأكيد ما قلته سابقاً من أنه لا فائدة ترتجى من محاولات التقريب بين المذهبين, فلا السنة سيتنازلون عن أصولهم المذهبية, ولا الشيعة سيتخلون عن أصولهم المذهبية أيضا. وخير من التقارب, وأيسر منه تحققا, التعايش السلمي بين الطرفين, فإذا كان الله تعالى قد أمر نبيه بأن يقول لمخالفيه في الدين: " لكم دينكم ولي دين", فلا أقل من أن يقول ويطبق كل من الفريقين مقولة: " لكم مذهبكم ولنا مذهبنا". ولا بد, لإرساء ذلك التعايش, من أن يستصحب الفريقان تعاليم القرآن الكريم, والتي منها" لكل منكم شرعة ومنهاجا, ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة", وأن يذروا ما يناكفها من صراعات التاريخ ومقولاته, فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.