هل كان أبو الطيب المتنبي (توفي سنة 354ه) يعني نفسه حصرياً وهو يعبرعن انسداد الأفق أمامه عندما هلت تباشير العيد عندما افتتح قصيدته المعروفة بقوله:"عيد بأية حال عدت يا عيد"، أم أنه كان يصف - لا شعوريا على الأقل - حال السياق الزمني الذي كان يعيش فيه؟ سيان كان الجواب، فلقد ذهبتْ تأوهات أبي الطيب مثلا في التاريخ العربي الإسلامي، يتذكرها شخوصه وممثلوه كلما هلَّ عليهم هلال العيد. مع ذلك، قد لا نبعد النجعة عندما نظن أن الظروف الشخصية لأبي الطيب ليست وحدها من حفزته على رفض الفرح بيوم العيد، ذلك أننا لو جُسْنا خلال السياق الاجتماعي الذي عاش فيه شاعرنا الكبير، لوجدنا أنه سياق محكوم بطائفية شرذمته وفرقته طرائق قددا يقتل بعضها بعضا. نحن المسلمين المعاصرين لا نقل يأسا ولا حزنا عن أبي الطيب المتنبي، ولسنا بالتالي أقل حاجة منه لمساءلة العيد بأية حال عاد؟ ها نحن والطائفية صنوان لا نفترق. وعيّارونا لّما يزالوا يضعون أصابعهم في آذانهم استعدادا لقرع الأجراس الطائفية فلقد امتدت حياة أبي الطيب المتنبي طوال النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وهو القرن الذي بدأت فيه ظاهرة الاقتتال بين الأحياء الشيعية والسنية في بغداد تأخذ طابعا منظما. يقول جورج طرابيشي في كتابه(هرطقات):"منذ أن دخل أحمد بن بويه الديلمي بغداد سنة 334ه بدأت ترى النورَ ظاهرةُ الاقتتال، وحرب الأحياء ما بين السنة والشيعة، ولاسيما بين حيي الكرخ الشيعي، وباب البصرة السني". يذكر ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) على هامش أحداث سنة 349ه، أن "صلاة الجمعة تعطلت في مساجد بغداد لاتصال الفتنة بين الجانبين الشيعي والسني". أما ابن الجوزي فيذكر في كتابه (المنتظم) أن" الفتن بين الشيعة والسنة اتصلت في جمادى الأولى من هذه السنة (سنة 349ه) وقتل بينهم خلق كثير، ووقع حريق كبير في باب الطاق". هذه فقط عينات من الأحداث التي عاصرها أبو الطيب، وتحديدا قبل وفاته بخمس سنين. هذا الجو المحموم من الطائفية المقيتة هو ما كان يعيش فيه أبو الطيب، وبالتالي فلا أستبعد أنها، أعني الطائفية وما تفضي إليه من تدمير لمقدرات الإنسان، كانت في صلب تفكيره عندما تساءل بصورة تهكمية عن الحال التي جاء بها العيد. أجزم أن ثمة مضمرا في شكوى المتنبي هو المقصود من وراء ظاهرها، الذي يبدو وكأنه تعبيرعن ملمات شخصية خاصة به. هذا المضمر له صلة ربما بالطائفية التي أحالت واقع العالم الإسلامي حينها إلى محض إحن ومحن وقتل واقتتال على الهوية. لأنه إذا كان العيد عنوانا للسعادة والفرح والحبور، وإذا كانت الفتن الطائفية بين الشيعة والسنة متصلة - وفقاً لابن الأثير وابن الجوزي - منذ ما قبل وفاة أبي الطيب بعشرين سنة، وبمستوى وصل إلى حد تعطيل الصلوات، فإن العيد في ذلك السياق العربي الإسلامي كان ولابد أن يكون كالحا مكفهرا خاليا من مسحة فرح أو تطلع لأمل، بعد أن فعلت السياسة فعلها فجعلت السذج وقودا لنار الفتنة الطائفية كلما خبت زادوها سعيرا. يفصلنا عن زمن أبي الطيب الذي كان يموج بالطائفية، ويُقتل أبناؤه على الهوية، وتعطل فيه العبادات، أكثر من ألف سنة. ومنذ ذلك الزمن وحتى اليوم، لا يزال المسلمون يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون مما كان أبو الطيب يبث على وقع إيحائه حزنَه يأسَه، بل وتبرمه من قدوم العيد. إذا كان من تطلق عليهم مصادرنا التاريخية اسم "عيّاري بغداد" يقومون بدور رئيس في تأجيج الجحيم الطائفي، عندما يبدأ عيارو كل طائفة بالإساءة إلى الرموز التاريخية للطائفة الأخرى، وإذا نحن علمنا أن من الثوابت البارزة في بنية الصراع الطائفي زمن أبي الطيب، أن العامة القابلين بطبيعتهم للاستثارة، ظلوا وقوداً طيعا لإرادة (العيارين) يحركونهم ليكونوا وقودا للنار الطائفية، خدمة لإيديولوجيا القابعين خلف الستار، إذا كان الماضي الطائفي للمسلمين زمن أبي الطيب هكذا، فإن العيارين المعاصرين لا يختلفون عن سلفهم، سوى أنهم يستخدمون اليوم أحدث ما أنتجه العقل العلمي الغربي لتكريس طائفية ماضوية لا تبتغي شيئا قدْر رهن الإنسان ومقدراته لماض موهوم لا وجود له إلا في الأذهان، ماض دبجته في أذهاننا صراعات سياسية، تحولت مع الزمن، بفعل الانكسارات إلى صراع مذهبي ممقوت. نحن المسلمين المعاصرين لا نقل يأسا ولا حزنا عن أبي الطيب المتنبي، ولسنا بالتالي أقل حاجة منه لمساءلة العيد بأية حال عاد؟ ها نحن والطائفية صنوان لا نفترق. وعيّارونا لّما يزالوا يضعون أصابعهم في آذانهم استعدادا لقرع الأجراس الطائفية. ثمة دول تقف بقضها وقضيضها مع الطائفية، تمولها وتغذيها وتوقد على نارها كل حين حتى اسودت فهي سوداء مظلمة. وبالمقابل هناك غاغة وسذج يميلون مع الريح الطائفية حيث دارت، وإعلام لا يجد ما يبثه إلا فحيح أفاعٍ شربت من سم الطائفية حتى الثمالة. ربما لا نجزم أنحن مسلمي اليوم، أم السياق الزمني الذي عاش فيه المتنبي أحق بمقولة" عيد بأي حال عدت يا عيد"؟ ولكننا متأكدون أن كلينا لا يجد بدّاً من ترديدها كلما هل هلال العيد. ويبدو أن خلَفَنا لن يجدوا ملجأ أو مغارات أو مُدَّخلا عن اللجوء إليها كلما عنّ لهم أن يلبسوا ثياب العيد، إلا إذا حدثت معجزة في بنية العقل العربي، لكن المشكلة أن فلسفة التاريخ لا تجعل للمعجزة دوراً في خط سيره المرسوم. ولو قرأنا التاريخ بالبصائر لا بالأبصار، لكنّا حسمنا أمرها مع فتنة الطائفية منذ زمن، والله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!