يكاد التاريخ يعيد نفسه في كثير من الأحيان، بين شعراء الفصيح القدماء، وشعراء العامية قبل ثلاثة قرون وأقل، ولا عجب فإن الأم واحدة وهي وسط جزيرة العرب، واللغة هي نفسها وإن شابها بعض اللحن في العصور المتأخرة، كما أن ظروف الحياة متقاربة الى حدٍّ كبير رغم تباعد السنين بعدة قرون، فالشعر العامي عندنا تلميذ نجيب للشعر الفصيح، بل هو أخوه الصغير الذي ينصت له ويتعلم منه ويقتبس من فكره، وهناك أمثلة كثيرة لهذا التقارب الجميل: فمحسن الهزاني قريب من عمر بن أبي ربيعة في التغزل بالحسنوات والزعم بأنهن معجبات بهما إلى حد المطاردة أحياناً (وهل يخفى القمر؟!) كما يجمعهما النسب العريق، والفارس الشهير أبو فراس الحمداني يتقارب مع الفارس الشهير راكان بن حثلين في الشجاعة والإقدام والسيادة، فكلاهما أمير في قومه وكلاهما أُسر غدراً ، واستمر في سجن الأتراك سبع سنين، و أبدعا أشعاراً رائعة في السجن، وخرج كل واحد منهما من سجنه ببطولة خارقة تكاد تكون اسطورة ، وفي حميدان الشويعر شبه من الحطيئة في الولع بالهجاء وإن كان حميدان يهجو إعجاباً بنفسه ودفعاً لعقدة الاضطهاد، بينما الحطيئة يهجو لؤماً وتكسباً، والدجيما يذكرنا بمجنون ليلى، أما ابن لعبون فيعيد حياة ذي الرمّة في بلاغة الشعر وقصر العمر والاقتصار على محبوبة واحدة والغريب أن اسم محبوبة الشاعرين واحد (مي) وأن كلاًّ منهما لم ينل منها شيئاً ولم يحظ بأي وصال، كما أن شليويح العطاوي يشبه عروة بن الورد في الشجاعة والإيثار وتزعُّم فريقاً من الأصحاب، والأمير محمد الأحمد السديري أقرب إلى المتنبي في جزالة الشعر وعزة النفس وبلاغة القول، وغيرهم كثير .. . وراشد الخلاوي قريب من زهير بن أبي سلمى في صدق اللهجة وعزة النفس وشعر الحمكة والبعد عن التعقيد، وفي ملازمة ممدوح واحد عن قناعة وإعجاب، فالخلاوي لازم (منيع بن سالم بن عريعر) أحد رؤساء الأحساء في عصره، وزهير لازم (هرم بن سنان المري الغطفاني) أحد الزعماء في العصر الجاهلي والذي سعى هو والحارث بن عوف -وكلاهما سيدان- لإنهاء حرب (داحس والغبراء) ونجحا.. . ولا نعرف متى ولد شاعرنا (راشد الخلاوي) بالضبط، ولكن الراجح أنه عاش في القرن الحادي عشر الهجري وأشهر من كتب عنه العلامة (عبدالله بن خميس) رحمه الله، ويمتاز الخلاوي عن زهير بأنه عالم بالنجوم، كما يمتاز زهير بالصبر الطويل على مراجعة قصائده وتنقيحها قبل إذاعتها حتى اُعتبِر زعيم (مدرسة عبيد الشعر) .. ونقدم الآن ماتيسر من شعر الخلاوي وزهير: أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ وَدارٌ لَها بِالرَقمَتَينِ كَأَنَّها مَراجِعُ وَشمٍ في نَواشِرِ مِعصَمِ وَفيهِنَّ مَلهىً لِلصَديقِ وَمَنظَرٌ أَنيقٌ لِعَينِ الناظِرِ المُتَوَسِّمِ بَكَرنَ بُكوراً وَاِستَحَرنَ بِسُحرَةٍ فَهُنَّ لِوادي الرَسِّ كَاليَدِ لِلفَمِ *** سَعى ساعِيا غَيظِ بنِ مُرَّةَ بَعدَما تَبَزَّلَ ما بَينَ العَشيرَةِ بِالدَمِ فَأَقسَمتُ بِالبَيتِ الَّذي طافَ حَولَهُ رِجالٌ بَنَوهُ مِن قُرَيشٍ وَجُرهُمِ يَميناً لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَمِ يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَم وَمَن لا يُصانِع في أُمورٍ كَثيرَة يُضَرَّس بِأَنيابٍ وَيوطَأ بِمَنسِمِ وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ وَمَن يَجعَلِ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ يَفِرهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَتمَ يُشتَمِ ومن لا يزد عن حوضه بنفسه يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلمِ وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَلقَها وَإن يرق أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ وَمَن يَغتَرِب يَحسِب عَدُوّاً صَديقَهُ وَمَن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكَرَّمِ وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ (زهير بن أبي سلمى) فلا للورى عما برى الله متقى ولا حيلة يحتالها الكون جايبه قضى ما قضى وأمضى بالاحكام ما يشا ومن طاعها ولى فالأقدار غالبه والأقلام جفت بالذي صارواستوى على الكون وأطوى للسجلات كاتبه ومن طاول الأقدار يرمى من السما مقادير رب نافذ القول غالبه ولا يبتلى إلا فتى شاد للورى رفيع الذرى ما طال يا صاح صاحبه حياة بلا عزّ محا الله حظها حياة الفتى مافاتها العز خايبه صبرنا وحسبي من قضا اللي بما قضى شديد القوى سبحان من لا يحاط به صبرنا على تصريف الأقدار والقضا صبر جميل واحتسبنا لواجبه صبرنا على أمر الإله الذي فرى فؤادي وذاب الحال مني وباد به صبرنا وسلمنا للأقدار والقضا ومن لا يسلم للقضا خاب جانبه *** نعد الليالي والليالي تعدنا العمر يفنا والليالي بزايد قولوا لبيت الفقر لا يامن الغنا وبيت الغنا لا يامن الفقر عايد ولا يامن المظهود جمعٍ يعزه ولا يامن الجمع العزيز الضهايد ووادٍ جرى لا بد يجري من الحيا ان ما جرى عامه جرى عام عايد ومن عود العين المنام تعودت ومن عود العين المساري تعاود ويا طول ما وسدت راسي كداده من خوفتي يعتاد لين الوسايد ومن عود الصبيان ضربٍ بالقنا نادوه باللقوات يابا العوايد و من كثر الطلعات للصيد ربما يوافيه مراتٍ يجي منه صايد (راشد الخلاوي) محمد الأحمد السديري عبدالله بن خميس