يبدو لي الشعر العربي القديم وكأنه معلم كبير السن، غزير الثقافة، فصيح اللسان، ويبدو بجانبه الشعر الشعبي في وسط الجزيرة - قبل توحيد المملكة بالذات - تلميذاً نجيباً لذلك المعلم الوقور، يستمع إليه ويقتبس منه، ويقتدي به فلئن فرقهما الزمن الطويل لقد جمعهما المكان الأثير واللسان الواحد والظروف المتشابهة وقرابة الدم والأرض على البعد والقرب، فهم في نهاية المطاف أجداد.. وأحفاد.. مورثون.. ووارثون.. فالشعر الشعبي الأصيل فيه من الشعر الفصيح نفحات، وهو ما يمثاله في أغراضه وصوره الفنية، كالوقوف على الأطلال والبكاء على رحيل الأحباب، ووصف الناقة وحبها والفخر بالقبيلة وبالمكارم الأصيلة، وفي شعر الحكمة والحب هناك تقارب وتلاقح فشعرنا الشعبي الأصيل امتداد لشعرنا العربي الفصيح. ورغم ان وسط الجزيرة العربية كان يعيش معزولاً عن العالم تقريباً، وفي ظروف اقتصادية قاسية جداً، إلاّ ان الشعر الفصيح تسرب إلى شعراء تلك الفترة، إما عبر مخطوطات أو مشافهة، فأثر في ثقافتهم واستأثر باعجابهم إلى درجة ان بعض الأبيات الشعبية كأنما ترجمت من الفصحى إلى العامية فقول حميدان الشويعر مثلاً: (أنا أدري بعلم اليوم والامس بما جرى وباكر بغيب والأمور وقوع) كأنه صدى لقول زهير بن ابي سلمى: «واعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي» ولأن البيئة واحدة والظروف متشابهة في صحراء العرب اتفقت الرؤية بين الشعراء القدامى (بالفصحى) وشعرائنا الشعبيين فإذ يقول زهير: (ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم) يقول راشد الخلاوي: ومن لا يرد الضد بالسيف والقنا ويحمي الحمى جارت عليه ثعالبه ومن لا يذود الذود عن حوض ورده شبا السيف أو تظما لديه ركايبه * ولحميدان الشويعر أبيات بنفس المعنى.. ويقول الشاعر العربي القديم: «ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها» وقريب منه قول راشد الخلاوي: «واحلى لساعات الفتى ما بها الفتى وما فات منه ساعة الغيب غايبه» ويقول عمرو بن كلثوم حين أقبل على جبال طويق باليمامة: «فأعرضت اليمامة واشمخرت كأسياف بأيدي مصلتينا» ويقول راكان بن حثلين (وهو فارس وشاعر كعمرو بن كلثوم فكلاهما من فرسان العرب المعدودين): «وخشوم طويق فوقنا كن وصفها صقيل السيوف اللي تجدد جرودها» بل إن شعراءنا الشعبيين قد يضمنون شعرهم عجز بيت فصيح كقول مع بعض التعديل، وهذا يسمى في فنون البلاغة (التضمين) ومنه قول محسن الهزاني: «واهوي على ركن من الخيل كنه جلمود صخر حطه السيل من عال» ولابن لعبون: وافقى مصر كن جاكات شاله جلمود صخر حطة السيل من عال ويضمن ابن لعبون عجز بيت آخر لامرئ القيس، قال: ينشدني يوم انتوى الكل برحيل هل عند راسم دارس من معول؟ ويقتبس شاعرنا محمد بن مسلم من النابغة وبشار بن برد حين يقول: من الراي سامح صاحبك ولا تعاتبه إلى زل أو ابطا شيء تراقبه خذ ما تيسر منه واستر خماله إلى عاد نفسك في ملامه راغبه فان كنت في كل المشاحي موارب رفيقك ما تلقى الذي ما تواربه فمن لا يسامح صاحبه عند زله خلاه صرف البين من غير صاحبه فالنابغة الذبياني يقول: «ولست بمستبق أخا لا تلمه على شعث، أي الرجال المهذب» وبعده قال بشار بن برد: «إذا كنت في كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه وإن أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه؟ فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه» ومن الطريف كما ورد في كتاب الأغاني ان راوية بشار بن برد جاء إليه وعنده حشد من الناس وكان بشار مغروراً جدا فقال: يا أبا معاذ أنشد رجل في مجلس الوالي: «إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه» فطرب بشار وسأل: - وماذا قال الوالي؟ فأجابه الراوية: - رقص طرباً من البيت وسأل لمن هو؟ فقالوا لبشار بن برد فقال: حسبته لشاعر كبير. فاستشاط بشار غضباً وقال لراويته: «ويلك ألا قلت له إنه لأكبر شعراء الإنس والجن؟!».