سبق أن كتبتُ عن "الفقاهة" العربية وقلت: إن العرب فقهاء في أمور كثيرة.. فقهاء في الدين أحياناً.. فقهاء في الشعر كثيراً.. فقهاء في الغناء جيداً.. فقهاء في علم الضرب والقسمة بكل تأكيد..!! ولكنهم غير فقهاء في فن السياسة، ولا يريدون أن يكونوا كذلك.!! وربما أن تلك سمة عربية قديمة متوارثة. فالعرب يجيدون فن الحرب، ولكنهم لا يجيدون فن لعبة الحرب، ومكر الحرب وكيدها!! لأن العرب في الماضي فطريّون، يحبون الوضوح.. فهم واضحون في كل شيء كما صحرائهم، كما شمسهم، كما نجومهم، كما سيوفهم.. عين العربي دائماً مفتوحة على الوضوح فلا يحدها إلاّ السراب أو شماريخ الجبال أو كثبان الرمال. ولهذا فالعربي صريح صراحة تكاد تصل حد السذاجة والغفلة. إنه يعرف الحب، ويعرف الكراهية،، يعرف الصداقة ويعرف العداوة،، ولكنه لا يعرف تلك المنطقة الحساسة التي بينهما والتي تفرضها مقتضيات المصلحة أو المصانعة. فالمسألة لديه إما حرب وإما سلم، ولا شيء بينهما. فلا منطقة ضبابية بين الحرب والسلم، تحتاج منه إلى الكثير من الأناة والحيطة، والحذر، والتخطيط، والرؤية الثاقبة، واستعمال الكيد، والدهاء، فالعرب لا يعرفون لغة الضباب. ولا سياسة الضباب، ولا حروب الضباب. ولذا جاء شاعرهم واضحاً ومعبراً عن هذا الموقف في صرامة وصلابة لا تقبل الوسطية أو المحايدة، ولا تقبل التأويل أو إمكانية الاحتمال. يقول المثقّب العبدي: فإمّا أن تَكونَ أخي بحق *** فأعرف منك غَثّي مِن سَمِيني وإِلاّ فاطّرحِني، واتخذني *** عَدواً أتّقيِكَ وتَتَقيني هكذا وببساطة حادة: إما أن تكون صديقاً خالصاً، أو عدواً خالصاً، ولا شيء غير ذلك..!! وهذا في تصوري هو ماجعل العرب يفتقدون حاسية الخطر الذي قد يباغتهم، فهم يرون أن الصديق يظل صديقاً ويجب أن يكون كذلك..!! وبناء على هذا التصور "الوراثي" فكثيراً ما يذهبون ضحية إفراطهم وغلوهم في أمانة الصديق، فهم - ورغم التجارب الطويلة - لم يتعرفوا بعد على العدو الصديق. ولا على الصديق العدو. لا يزالون يبوسون الخشوم والرؤوس، وينحرون الجمال والخراف لأي زائر سياسي.. ولا يزالون يتشبثون بأخلاق الفرسان، مع أن هذه الأخلاق ذهبت واختفت منذ اختفاء الجواد والرمح والسيف! نحن في زمن ليس فيه أخلاق فرسان، بل ليس فيه أخلاق حرب أو أخلاق سلم. نحن في عصر اللا أخلاق. فالمصلحة هي الأخلاق... والقوة هي الأخلاق الفاضلة... وممارسة الكيد والخديعة هي العمل المحترم والمطلوب!! هي اللغة التي يفهمها عالم اليوم... كما يقول الكاتب الألماني العملاق ((غونتر غراس)) في كتابه ((ظلم الأقوى))... إن هذه الغيبوبة السياسية التي قد تصل بالعرب إلى حد البلاهة هي وراء إخفاقاتهم، وانكساراتهم، وهوانهم على الناس. إن الثقة في الآخر والطيبة المتناهية التي تصل إلى درجة الكرم، قد أوقعتهم في حبائل وخدع الألاعيب السياسية منذ عهود الاستعمار، ثم الحرب الباردة، وهم يتنقلون من حلقة إلى حلقة، وكل حلقة أضيق عليهم من الأخرى. ومن مرحلة إلى مرحلة، وكل مرحلة أسوأ من سابقتها، فكأنهم مثل نازل الدرج كل خطوة تهبط بهم نحو الحضيض فيزدادون هبوطاً وتمزقاً وضعفاً وتباعداً!! كان العرب يقاتلون جنباً إلى جنب، فأصبح كل جنب يقاتل وحده.!! وكانوا يدافعون عن بعضهم، فصار بعضهم يدافع عن عدوهم..!! وكانت تأتيهم الوسطاء لحل النزاع بينهم وبين عدوهم فصاروا هم الوسطاء مع عدوهم!! وهكذا تتلاشى قضاياهم كما تتلاشى أراضيهم، واقتصادهم، وكرامتهم بسبب طيبتهم، وسذاجتهم، التي تصل حدّ البلاهة والبلادة..إن اللعبة السياسية اليوم تحتاج قبل كل شيء إلى شراسة، وعنف وقوة. فالقوي لا يحترم إلاّ القوي حتى في الحوار. كما أنها تتطلب مزيداً من "التفقّه" و الفطنة.. فالألاعيب السياسية تحتاج إلى إبداع في المحاورة والمناورة، وإلى قدر كبير من الاعتزاز بالنفس والثقة بها، وإلى قدر كبير من احترام الشعوب وتمكينها كقوة وطنية ضاغطة في اللعبة السياسية.. لكن المشكلة أن هذه المسألة مغيبة عن "الفقاهة" السياسية العربية، ومن ثم فإن العرب لم يتعلموها من دروس الواقع اليومي، ولن يتعلموها بكل تأكيد من توصيات جامعة الدول العربية أكرم الله مثواها... ولا من هيئة الاممالمتحدة الموقرة... فهل توقظهم الأحداث ولو متأخرين، فيحزموا أمرهم، و ينتبهوا لما يدبر لهم من مكائد، تجرهم نحو المزيد من التشرذم والتآكل..؟ أم أنهم سوف يستمرون في ((أكل الضربات)) واستمرار الغيبوبة والغفلة وإحسان الظن بالأعداء، فيشنّوا غارات التهم فيما بينهم والحرب على كل المخلصين، والمحذرين، من المكائد والألاعيب السياسية والفكرية، وسيرمونهم بالجهل وقلة الفطنة والغفلة وأنهم من المؤمنين بنظرية المؤامرة، التي يعتبرها أولئك كفراً وإلحاداً... كي يثبتوا للعالم أجمع أنهم بواسل وشجعان ومتحضرون أيضاً...!!!