الذي يستمع إلى التهويشات السياسية الغربية نحو إيران يعتقد أن الحرب سوف تقع بين الجانبين غداً أو بعد غد، فهذا الحشد الإعلامي من الوعد والوعيد، والتهويل، والترهيب، يجعل السامع من أبناء المنطقة يعد عدته ويخزن كل ما يستطيع خزنه من وسائل العيش تجنباً للجوع والهلاك من ويلات هذه الحرب التي تدق طبولها..!! والواقع أن كل ما نسمع ما هو إلا نوع من الهراء السياسي بين الطرفين، فلا الغرب مستعد لضرب إيران، وإيران لن تعبث بمصالح الغرب ولن تحرق إسرائيل كما تدعي وتزعم، وإنما برد وسلام على الطرفين.. مشكلتنا في المنطقة أننا لم نستوعب دروس الألاعيب السياسية التي تدار وتحاك من حولنا.. فأبسط الناس وأكثرهم سذاجة يعرف أن منطقة الخليج العربي منطقة بالغة الحساسية وشديدة التعقيد السياسي والاقتصادي.. فقدر المنطقة أن تكون مخزون الطاقة الأول للعالم، فهي أشبه شيء بمولد كهربائي أممي ينشر الضوء في المنازل والشوارع ويبعث الطاقة في المصانع ووسائل النقل والاتصال.. ومن ثم فإن الإخلال به أو تعطيله سوف يعطل قطاعاً واسعاً من الحياة على وجه البسيطة.. ومن هنا تأتي الحساسية السياسية والاقتصادية للمنطقة، ومن ثم فإنه من الجنون والتهور الدخول في حرب لو وقعت فإنها سوف تشل المنطقة بكاملها وسوف تسبب كوارث اقتصادية مدمرة ومخيفة.. هذه ناحية، أما الأخرى فإن الولاياتالمتحدة والغرب كله، لم يعد قادراً على المزيد من التورط في خوض معارك جديدة بعد الويلات والاخفاقات التي مني بها في العراق وأفغانستان، فمن السذاجة القول أنه لا علاقة بتلك الحروب وما يعانيه العالم الغربي اليوم من تدهور مخيف في وضعه الاقتصادي، لقد نزف الغرب خلال العشر السنوات الماضية كميات هائلة من الدماء والأموال التي لم تنتج إلا هذا الكساد والخراب الذي لا يزال يجر وراءه خراباً، وتدميراً.. أعود لأقول مرة أخرى أن مشكلتنا أننا لا نزال نعتبر لون السياسة إما أسود أو أبيض ولا شيء بينهما، وهذه سذاجة، وقصور في الوعي السياسي.. فالسياسة بطبيعتها متلونة، متغيرة تتشكل وفقاً للظروف والمنافع فلا صديق دائم ولا عدو دائم في السياسة، وإنما هي المصلحة والمنفعة.. والذي يستقرئ ويستنبط الأوضاع يجد أن العلاقة بين الغرب وإيران علاقة في صميمها، وباطنها علاقة متوازنة إن لم نقل وطيدة، بل هي في محلصتها النهائية تصب في مصلحة إيران من المنظور البعيد، فأمريكا التي احتلت العراق سوف تخلف وراءها قرابة المليوني فارسي استوطنوا وحصلوا على الجنسية العراقية مقابل أكثر من أربعة ملايين عراقي عربي شردوا وأخرجوا من العراق..!! ويخيل إلي أن العراق أصبح في مزاجه العام أقرب إلى المزاج الإيراني، وهذه تكاد تكون حقيقة لا يمكن أن تغطى بالتستر أو التغاضي، وفي المحصلة فإن النفوذ الإيراني صار أكثر نفوذاً وتوغلاً في ظل الاحتلال الغربي للعراق. مشكلتنا مرة أخرى تكمن في أن وعينا السياسي لا يزال مشوشاً ومختلطاً وملتبساً، لأننا نثق ونصدق ونجري وراء الظواهر ولا نذهب إلى الأعماق فتغيب عنا الحقيقة.. إذ ليس من مصلحة الغرب مطلقاً أن تلتهب المنطقة وتتجه نحو الاشتعال، وإنما من مصلحتها أن تظل داخل دائرة التشويش والاضطراب.. أن تظل مشغولة بالصراع السياسي والمذهبي، ففي ظل هذا الصراع يسهل التدخل، والتواجد، والنفوذ، بسبب سياسة التخويف والإرجاف لتظل المنطقة مذعورة تترقب، وهذا بكل تأكيد يشل حركة بنائها، بناء الذات، وبناء الشخصية، وتنمية العقل، وهذا ما يجعلها تتأخر كثيراً في صناعة مستقبلها صناعة حقيقية تجعلها قادرة على حماية نفسها بنفسها وتجعلها قادرة على حماية مواردها والتحكم فيها، إذ لو أصبح الأمر كذلك لاستغنت عن التدخل ونفوذ الآخر. ولبرزت كقوة متفردة لها وزنها وتأثيرها وثقلها السياسي والاقتصادي. * * * إن لدي قناعة تامة بأن ما نسمعه من تهديد ووعيد، ومن مشاغبات إعلامية غربية إيرانية، إنما هو نوع من كهربة المنطقة، وتوتيرها ووضعها تحت تأثير الانفعال، والاستفزاز والارتباك ونرفزة الأعصاب السياسية لكي تبقى دائماً مسكونة بالقلق والنرفزة والترقب..