يُنظر إلى سورية تقليدياً باعتبارها إحدى الدول الرئيسية في الشرق الأوسط على صعيد إنتاج القمح. بيد أنها أضحت تواجه اليوم صعوبات غير تقليدية في هذا الشأن، جراء الأوضاع الأمنية الاستثنائية التي تمر بها، معطوفة على الظروف المناخية. وعلى الرغم من ذلك، فإن الرغيف تحدى الحرب وظروفها، وظل متاحاً لكل السوريين. وأياً يكن الأمر، فإن ما يُمكن قوله، على نحو عام، هو أن الغذاء السوري، وفي المقدمة منه رغيف الخبز، قد بات اليوم مستهدفاً عن سابق قصد وإصرار. ولا يضر هذا الاستهداف سوى المواطن السوري. بل هو اعتداء صريح على حقه في الحياة.. على صعيد الشق الخاص بالتداعيات الأمنية للأزمة، يعتبر قطاع المخابز والمطاحن الأكثر تضرراً من الأزمة التي تمر بها سورية. وقد خرجت من الخدمة العديد من منشآته، إذ سلبت ودمرت حوالي 27 مطحنة، من أصل 56 مطحنة، معظمها كان في حلب، الأمر الذي جعل المطاحن المتبقية تعمل بطاقتها القصوى. وقد قدرت الشركة العامة للمطاحن في سورية قيمة الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بمنشآتها خلال العام 2013 بأكثر من مليار ليرة (الدولار يساوي حوالي 180 ليرة سورية). وقالت الشركة إن قيمة الأضرار التي لحقت بمنشآتها في مدينة دمشق قرابة 464 مليون ليرة في حين تجاوزت قيمتها في حلب 313 مليون ليرة، وبلغت في حمص إلى 172 مليون ليرة تقريباً، وفي القامشلي تجاوزت 12 مليون ليرة، وفي فرع إدلب نحو ستة ملايين ليرة واللاذقية بحدود أربعة ملايين ليرة، في حين لم تستطع الشركة إحصاء الأضرار في مطاحن درعا ودير الزور والرقة. كما لم يتم تسجيل أية أضرار في مدينة طرطوس. وأوضحت الشركة السورية أن 12 بناءً خاصاً بمنشآت الرغيف قد أصبح خارج الخدمة، بينما تسبب إجرام المجموعات الإرهابية الضالة في قتل 20 عاملاً. وأعلنت الشركة خروج مطاحن الرقة ودير الزور ودرعا، وأغلبية مطاحن حلب وبعض مطاحن حمص، وذلك بسبب وقوعها في مناطق متوترة أمنياً. وتعرض بعضها للتخريب والاعتداء من قبل المجموعات الإرهابية الضالة. وتشير البيانات إلى أن الشركة العامة للمطاحن قد طحنت نحو 540 ألف طن من الأقماح خلال النصف الأول من العام 2014، بنسبة تنفيذ بلغت 119% من الخطة. وتعود هذه الزيادة لاستمرار عمل المطاحن خلال فترة العطل الرسمية. وبلغت مبيعات الشركة من مادة الدقيق بمختلف أنواعه حوالي 5,6 مليارات ليرة، وبلغت المبيعات المنفذة لمادة النخالة بمختلف أنواعها944,7 مليون ليرة. ولا تعكس هذه المبيعات كامل مؤشرات بيع رغيف الخبز في سورية، لكنها تؤكد بأن هذا الرغيف تحدى الحرب وظروفها، وظل متاحاً للناس، كل الناس. وتُقدر كمية الدقيق الموردة الشركة العامة للمطاحن لغاية حزيران يونيو الماضي ب150 ألف طن من إجمالي كمية العقود والاتفاقيات التي أبرمتها الشركة لتغطية حاجة السوق من هذه المادة، إضافة إلى كميات جرى شراؤها محلياً من مطاحن خاصة. وبلغت كمية الأقماح المسوّقة إلى كل من المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب والمؤسسة العامة لإكثار البذار 517442 طناً، وكمية الشعير 120739طناً، وذلك حتى أوائل آب أغسطس الماضي. وبلغ إجمالي كمية الأقماح المسوّقة للمؤسستين من محافظة الحسكة 365569 طناً، ومن حماة والغاب 82379 طناً، ومن حمص 18608 أطنان، ومن طرطوس 4593 طناً، ومن إدلب 4816 طناً، ومن درعا 2900 طناً، ودير الزور 23041 طناً، وريف دمشق 11834 طناً، والسويداء 2146 طناً، واللاذقية 520 طناً، وحلب 1036 طناً. وبلغت كمية الشعير المسوّقة من محافظة الحسكة 120398 طناً، ومن حماة 316 طناً، ومن حمص 23 طناً، واللاذقية 2 طن. وتدنى إنتاج البلاد من القمح إلى حوالي 25% هذا العام، حيث كان متوقعاً أن يصل إلى مليوني طن، إلا أنه لم يتجاوز 600 ألف طن، علماً بأن سورية كانت تنتج قبل الأزمة نحو 3.5 مليون طن سنوياً. ويعتمد إنتاج القمح في سوريا حالياً على المناطق المروية بمياه نهر الفرات والمياه الجوفية، والتي كانت لا تمثل قبل العام 2011 أكثر من 40% من إجمالي الإنتاج السنوي. وفي حقول الحسكة، على سبيل المثال، تراجع بشكل كبير إنتاج القمح لموسم العام 2014، في المناطق التي كانت تتميز باستقرار في الإنتاج، على ضفتي نهر الخابور وروافده. لقد تراجع إلى الربع إنتاج الهكتار المروي في الحقول التي لم يستطع أصحابها تأمين الأسمدة اللازمة بسبب العقوبات المفروضة على البلاد، كما لم يتمكنوا من إكمال السقايات الضرورية في شهري نيسان أبريل، وأيار مايو، حيث تعطلت المحركات جراء استخدام المازوت المصفى بشكل بدائي في بلدات المنطقة، حيث تضرر قطاع الطاقة السوري بشكل كبير، نتيجة سيطرة المجموعات الإرهابية الضالة على حقول الإنتاج الرئيسية شرقي البلاد. وقد قدر مزارعون محليون إنتاج الدونم في الحسكة بنحو كيس واحد. وهذا يعني أنه لا يغطي تكلفة إنتاجه، في حين كان الدونم ينتج عادة خمسة أكياس قبل الأزمة، ولا يقل عن ثلاثة أكياس في كافة الأحوال. كذلك، تضرر نحو 700 هكتار من المزروعات الشتوية بمنطقة الدرباسية في محافظة الحسكة، إثر تعرضها للبرد في نهاية شتاء العام الماضي. وقدرت الأضرار التي أصابت المحاصيل الزراعية بين 20 و50%، وطالت 350 هكتاراً من القمح و200 هكتار من الشعير و150 هكتاراً من العدس. وهناك حالياً مشروع لجر مياه نهر دجلة إلى سرير الخابور لمنطقة الحسكة، وقد وضعت دراسة متخصصة لهذا الغرض من قبل شركة روسية، ويجري حالياً تأمين التمويل اللازم له عبر قرض روسي. وفي السياق ذاته، تم حفر 30 بئراً في منطقة رأس العين بمحافظة الحسكة باستطاعة 200 متر مكعب مياه في الساعة، ووضعت في الاستثمار لتغذية مدينة الحسكة وتل تمر. وأفادت بيانات رسمية صادرة عن وزارة الزراعة السورية بأن نسبة تنفيذ الخطة الزراعية لموسم 2013-2014 قد بلغت 71% للقمح المروي، في حين بلغت للقمح البعل 81 % والشعير المروي 68 % والشعير البعل 84 % والقطن 2ر31 %، والمحاصيل والخضار الشتوية (لعام 2013) نحو 81 %. وتعتبر سورية قوة زراعية إقليمية، تصل نسبة الأراضي الزراعية فيها إلى أكثر من 30% من إجمالي مساحة اليابسة، وهي أعلى نسبة مسجلة عربياً. وتماثلها في ذلك تونس. ويأتي بعدهما لبنان بنسبة تصل إلى 21.4%، ثم السودان بواقع 14%. ويبلغ المعدل العربي الوسطي 5.3% والعالمي 11.8%. وهكذا، يُمكن إجمال التحديات التي يواجهها القطاع الزراعي بأنها تتمثل في صعوبة تأمين ونقل مستلزمات الإنتاج، وارتفاع تكلفتها، وصعوبة وصول بعض المزارعين إلى حقولهم، وانخفاض العمالة المتوافرة في بعض المحافظات وارتفاع تكلفتها. وغير بعيد عن التحديات التي تواجه عمليات الإنتاج، كان من تداعيات الأزمة التي تمر بها البلاد أن تعثر نقل المواد والسلع بين المحافظات، ولاسيما المواد الأساسية، وذلك بسبب تقطع عدد من الطرق الموصلة إلى المناطق والبلدات المنتجة. وهذه قضية عانى منها القطاعان العام والخاص، نتيجة إرهاب المجموعات الضالة. وهناك الكثير من الموظفين الرسميين قتلوا وهم يحاولون ايصال المواد التموينية للمواطنين السوريين. كذلك، يُمكن الإشارة إلى أن الكثير من سيارات الشحن في المؤسسات التسويقية قد تعرضت للسطو والسرقة والحرق. وهناك حالياً شاحنات قديمة تم العمل على تأهيلها وإعادتها مجدداً للخدمة. لقد كان من نتيجة قطع الطرق، وتعثر التسويق الداخلي، أن تكدس الإنتاج الزراعي في مناطق إنتاجه، وهبطت أسعاره فيها بشكل كبير، الأمر الذي تسبب في خسائر كبيرة للفلاحين السوريين. وفي المقابل، شهدت مناطق أخرى في البلاد نقصاً في السلع الزراعية، الأمر الذي أدى لرفع أسعارها. ومثال على ذلك، توريد القمح من المحافظاتالشرقية وحلب، والحمضيات من مناطق الساحل. وبالتوازي مع أزمة التسويق الداخلي، الناجمة عن قطع الطرق من قبل المجموعات المسلحة، تعرضت المنشآت والأبنية الخاصة بالتخزين والتسويق والرقابة إلى أضرار كبيرة جراء اعتداءات وعمليات تخريب مستمرة. وعلى صعيد حركة السوق السورية، تراجع خلال سنوات الأزمة دور الجمعيات التعاونية الاستهلاكية، نتيجة تعرضها لعمليات التخريب والسرقة من قبل الجماعات المسلحة، ولاسيما في محافظة حلب. وقد تم تدمير معظم هذه الجمعيات وسرقتها، وخرج الكثير منها من الخدمة الفعلية. وهذه الجمعيات مملوكة بالكامل للقطاع الخاص السوري، وتدار من قبل التجار السوريين. ويجري حالياً البحث عن حلول عملية لأزمة هذه الجمعيات، وصولاً لتفعيل دورها في الحياة الاقتصادية السورية. وبالنسبة لحركة العرض والطلب في سوق الغذاء السوري عامة، تفيد المؤشرات بأن الطلب على المواد الأساسية منخفض نسبياً، على الرغم من توفر هذه المواد بصفة عامة، ويعود ذلك إلى ضعف القوة الشرائية للعملة الوطنية جراء العقوبات الغربية. وكذلك نتيجة توزيع السلل الغذائية كمعونة ودعم اجتماعي، وتحتوي هذه السلل على معظم المواد الضرورية، مثل السكر، الأرز، العدس، البرغل والزيت النباتي. وأياً يكن الأمر، فإن ما يُمكن قوله، على نحو عام، هو أن الغذاء السوري، وفي المقدمة منه رغيف الخبز، قد بات اليوم مستهدفاً عن سابق قصد وإصرار. ولا يضر هذا الاستهداف سوى المواطن السوري. بل هو اعتداء صريح على حقه في الحياة. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الأرض السورية لازالت تطعم أبناءها، ولازال الخبز والغذاء متاحين لكل الناس، بمختلف شرائحهم ومستوياتهم المعيشية. وهذه هي إرادة الحياة قد تغلبت على إرادة الموت. وهذه الحقيقة لا تحجب أمراً آخر مفاده أن من يدعي السعي لبناء الأوطان لا يعمد إلى تدمير أقوات شعبه. إن من يحارب الرغيف هو همجي ومعتدٍ. ولا ريب أنه في ضلال مبين.