تعتني دار مدارك بتوفير أسماء مرموقة في عالم الثقافة العربية، ومنها الخليجية، أن تكون أعماله ضمن قائمتها، ومن جديدها هذا العام نشر الأعمال النثرية للشاعر قاسم حداد. تتكون هذه الأعمال النثرية من ثلاثة مجلدات الأول "مكابدات الأمل ونقده" والثاني "قهوة العائلة: قوت لا تموت" والثالث "نثر مائل وشعر وشيك". تشكل هذه المجلدات من أعماله النثرية السابقة التي أطلقها منذ أولها "نقد الأمل: مكابدات الشخص بعد ذلك" (1995)، و"ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" (1997)، و" له حصة في الولع: نثر مائل وشعر وشيك" (2000)، و"مكابدات الأمل" (2012). وقد أصدر أيضاً خارج الأعمال الشعرية عمله المشترك كنص مفتوح "الجواشن" (نص مشترك مع الروائي والقاص أمين صالح) - المغرب – 1989، ومختارات من موقع جهة الشعر (الذي أسسه 1994) في كتاب "جهة الشعر" (2008) بالإضافة إلى حواراته في كتاب أعده سيد محمود "فتنة السؤال" (2008) وسيرة مدينة المحرق في كتاب "ورشة الأمل" (2004)، و"الغزالة يوم الأحد" (2010). ونقل الناشر كلمة غلاف أحد المجلدات: «ظننتُ أن النظام الجديد سوف يضع حكمَ العدل مكان حكم الجور، وكرّست له كل انتباهي لأرى ما سيفعله. فرأيت هؤلاء السادة، في وقت قصير جداً، وقد جعلوا الديموقراطية، التي حطموها، تبدو وكأنها العهد الذهبي. لقد ذهبوا إلى حد أنهم أمروا سقراط، صديقي المسنّ، الذي لن أتردد في تلقيبه بأعدل رجال عصره، أن يشترك في القبض على مواطن، كانوا يريدون إزاحته عن طريقهم. وكانوا يبغون من وراء ذلك إشراك سقراط، أراد هو أم لم يرد، في أعمال النظام الجديد. وقد رفض سقراط الخضوع لهذا، واستعد لمواجهة الموت، مؤثراً هذا على أن يصبح أداة لجرائمهم». أفلاطون. في أعماله النثرية يحاول أن يرى الضفة الأخرى من اليأس المزمن الذي أفضى به إلى أن يحاور الموت في "قبر قاسم" (1999) غير أن مشاريع حداد لا يحدها فضاء فهو انشغل منذ سنين بمشروع شعري يعيد بناء شخصية الشاعر طرفة بن العبد الذي قضى على مقربة من شرق الجزيرة العربية، ويعد مشروعاً آخر عن الرسام فان جوخ. وصدور الأعمال النثرية هو توثيق لقراءة للأمل ونقده في ذهن الشاعر حداد، فهو تسامى باليأس والموت في أعماله الشعرية التي صدرت منها أعمال في مجلدين (2000) غير أن العقد منفرط في أعمال متوالية. حديقة الأمل دون فلاحتها ونختار مقاطع من كتبه السابقة، من "نقد الأمل" (1995): طوبى لمن يرى البحر من بيته 1 أينما تقف سوف ترى البحرَ من بيتك، إن كنتَ تريد ذلك، لاشيء يحول بينك وبين البحر. فالبحر في الرؤية، في بؤرة الذاكرة خصوصاً. ونعمة أن يكون البحرُ قريباً منك إلى هذا الحد، في جزيرة كالتي منحتها لنا الأسطورة. منذ الطفولة، لم ننم عن يوم من أيام عمرنا إلا ونكون قد رأينا البحرَ مرةً واحدةً على الأقل. من شتى جهات الجزيرة، وأنت ذاهب إلى المدرسة (أياً كان موقع بيتك) سيتحتم عليك أن ترى أفقاً من اللازورد يتأرجح بين خضرة الجسد وزرقة القميص. وما علينا إلا أن نستعيد ذاكرتنا لوهلة، لنرى البحر في الجهات. كما لو أن البحر كان لنا أكثر من اليابسة. والذي يفوته البحر صباحاً سوف يصادفه في هيامه المسائي، بعد أن نضع دفاتر المدرسة في الركن المعتم من الدار ونضيع بحثاً عن المتع الصغيرة. ونادراً ما كان يخلو لنا بيتٌ من شخصٍ ذهبَ البحر، ليدّخرَ حكاياته للأبناء والأحفاد، والكثيرُ الأغلبُ منا كان البحر جزءاً جميلاً في برنامج لهوه. 2 تقف في نافذة البيت فتراه. لابد لك أن تغتسل به، إما بالنظر أو بالجسد. إنه قدرك الأجمل، والذين أدمنوا هذه الزرقة، سوف يستنجدون بالذاكرة لكي ينقذوا أنفسهم من يابسةٍ تقتحم حياتهم. كأن لم يكن لنا في الحياة غير البحر. ربما لم نعد نراه بتلك الطفولة الواضحة، لكنه لم يزل الملجأ الفاتن الذي يمكن أن يذهب إليه المرءُ ليبوحَ له بما لا يقدر على البوح به لسواه. هل البحرُ حبيبنا السريّ. هل نعشق البحرَ لأنه أجمل من يحسن الاصغاء ولا يعرف الثرثرة وليس لأفقه تخوم. بحرٌ يمنحك لذة التذكر ومتعة النسيان في آن. أنت في النعمة إذا تسنى لك أن تجرّد البحر من سريره وترتدي قمصانه وتفتح له حرية الانتقال، ساعتها ستراه قرينك الخفيف في الوقت والمكان. وما عليك إلا أن تقفَ في أي ركنٍ في بيتك لتراه بين يديك أو حولك، إن لم يكن بالرؤية فبالرؤيا. حتى عندما تقف عند نافذة مواربة مستورة، بإمكانك أن تلمح وشاحه اللازوردي أو تسمع نشيجه الحميم يفّرك قطيفتَه المترفة بثيابك، لتشعر بملحه الحلو يتسرب إلى المسامّ، يوقظ الجراحَ لئلا تصابَ بالنوم، فالبحر يشعر بالوحدة أيضاً. للبحر طبيعة الناس غير الموجودين، وهذه إحدى جمالاته التي يدخرها لمثل هذا الوقت. وليس للبحر تفسيرٌ واحد. فلكل تفسيره الخاص، لكلٍ بحره. وعندما تضع رأسك في حرير الوسادة وتغمض عينيك، فإن البحر الذي يأتيك، لا يشبه بحراً آخر، إنه بحرك فحسب. وهذا ما يجعل الأمر متصلاً بالمخيلة أكثر من اتصاله بالجغرافيا. ومن كتاب "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" (1997): قديم العرض القادم 1 أن لا تذهب لنفس العرض مرتين. كان هذا هو الشرط الوحيد الذي أراهن (نفسي) عليه، كلما تهيأت لحضور مسرحية جديدة. والحق إنني كنت أتغاضى عن هذا الشرط تسع مرات من بين عشرة عروض أحضرها. وفي كل مرة أقترح (على نفسي) تأجيل التشبث بشرطي موقتاً، تفادياً لقطيعة الفعاليات المسرحية المتوالية، وخشية أن تترتب على ذلك ملابسات اجتماعية تتصل بكائنات أحبها وتتميز بجناح الفراشة لفرط حساسيتها. ومن أسفٍ إنها حساسية اجتماعية فقط. 2 كيف يتسنى لنا تفادي الذهاب إلى نفس العرض في كل مرة ؟!فمادام العرض (جديداً)، فإنه لابد أن يكون مختلفاً. حسناً، هذا افتراض طيب، لكن الأمر ليس بهذا الشكل في معظم العروض. ومع انتباهنا لنسبية المغايرة بين العمل الفني (خصوصاً المسرح) والآخر، فالذي نصادفه غالباً ما يمثل أزمة حقيقية تقع ضحيتها مشاريعنا المسرحية. كل شيء يقدم في العرض القادم ستكون قد صادفته (أحياناً بشكل حرفي) في العرض الماضي، والجديد الذي تبحث عنه لن يكون متاحاً هذه المرة، عليك أن تتنازل قليلاً عن الشرط الذي تراهن عليه (نفسك). فربما ليس من الحكمة أن ينساق المرء وراء نفسه، الأمارة بسوء التقدير الذي يضعك في موقع الحرج. 3 لكن، ما هو الجديد الذي تريده ؟! أليس هذا تعجيزاً لا يقوم على منطق الفن ؟! ومن قال إن للفن منطقاً، أو ان ما يقوم على المنطق يمكن أن يتصل بالفن؟!إنني لا أطلب معجزاً. ليس ثمة معجزات في الفن، ليس سوى الموهبة والكثير من اجتهاد المخيلة. لا أحد يزعم أن موضوعات يمكن ابتكارها لكي تكون عملاً خارقاً في سياق ما نتخبط فيه. المشاعر الإنسانية وقضاياها هي ذاتها منذ الأزل، الحب، الحقد، الحرية، اليأس، الظلم، الموت، الأمل، الجنس.. إلى آخره، ستظل خالدة خلود الإنسان. الجديد سيكون دوماً في طريقة النظر أولاً، وفي الحساسية الذاتية التي تلامس الموضوع وتعيد معالجته ثانياً. فالجديد يكمن جوهرياً في العلاقات التي يمكن تقوم بين أدوات وآليات العمل الفني وبين أشياء الحياة وأرواحنا في هذه اللحظة، ومن ثم سياق (الشكل) الفني الذي يمكن للخيال أن ينهض به، وكل هذه العناصر هي معطيات ذاتية خالصة، سوف تميز الشخص عن الآخر، فلا يخطئها شخص ثالث. وإذا نحن استحضرنا طبيعة الخيال من شخص إلى آخر، فسيكون ضرباً من الاستحالة تشابه معطيات المخيلة بين الأشخاص، حتى ان أحد العلماء قد زعم ذات تجربة، أن تفارق واختلاف عمل المخيلة ومعطياتها تكاد تكون بنفس درجات اختلاف البصمات عند البشر، بل انها كذلك حقاً. وهذا ما يجعل التشابه في الأعمال الفنية، عندما تفتقد الذاتية، مكشوفاً، يشبه الفضيحة إلا قليلا،ً حين يقصر الشخص نشاطه على الاتكاء (فقط) على ما سبق إنجازه في مجاله، لكأنه يقدم بصمات غيره على أنها بصماته الشخصية، وفي هذا تزوير تستنكره طبيعة أشياء الحياة، وتدركه (دون أن يستوقفها) طبيعة أشياء الفن. ومن كتاب "له حصة في الولع" (2000) نختار التالي: 2- كرسي يجلس وحيدا العالم غرفتي لا أذكر الكاتب الذي قال، أوائل هذا القرن، بأن (العالم قريتي). وهو قال تلك الكلمة صدوراً عن جموح المخيلة التي يتميز بها المبدع، لكي يتصل بأبعد الكائنات في الكرة الأرضية، معبراً عنها وذاهباً إليها. وتلك المخيلة الشعرية، إذا كانت قد أسعفت ذلك الأديب، فإنها ستبدو الآن، في نهاية القرن، في مواجهة أكثر وسائل الاتصال (شعرية)، حيث يتجلى لنا قدرة العلم (الذي لا يختلف عن الشعر إلا في النوع) على تحقيق أكثر الأحلام توغلاً في المستحيل. لذلك، يمكنني الآن القول مجدداً، بأن (العالم غرفتي). فمن خلال شاشة الكمبيوتر الشخصي، في غرفتي الصغيرة، في بلدتي الأصغر في العالم، يمكنني أن أتصل (ليس بالمخيلة فقط) بأبعد الكائنات في.. / ليس في الكرة الأرضية فحسب، ولكن في حدود المجرة التي تتجاوز حدود الأرض. لكي أتابع ما يجري للمركبة الصغيرة التي ذهبت إلى سطح المريخ للتعرف على الوضع هناك وتصفه لنا، تمهيداً للسفر إليه. باعتبار أن الحجز على الرحلات التجارية الذاهبة إلى الفضاء قد بدأ الآن، استعداداً للإقلاع أوائل القرن الوشيك، كل ذلك يحدث الآن عن طريق شبكة الإنترنت. إن مجرد فكرة قدرتنا على الاتصال بكل من يجلس أمام جهازه الشخصي في أية غرفة صغيرة، في أي منطقة من الكون، هي فكرة تتصل بالشعر كثيراً، الأمر الذي يؤكد يوما بعد يوم بأن العلم هو ضرب من الشعر بطريقة أو بأخرى. وإذا كان أمام الإنسان في ما مضى أن ينتظر أياماً طويلة من أجل استلام جواب رسالته من شخص في البلدة المجاورة، فإنني تمكنت في ليلة واحدة أن أزور عدداً من مواقع شعراء في جنسيات ومناطق مختلفة من الأقاصي البعيدة في العالم. أتبادل معهم المعلومات، وأقرأ طرفاً من أشعارهم (بعد ترجمة آلية سريعة تسعف جهلي باللغات). أكثر من هذا، فإن نوعاً من البهجة شعرت به وأنا أتأمل في موقع مواطن عربي يعيش في باريس، عندما لاحظت أنه (وهو المتخصص في حقل علمي) قد وضع في موقعه نصوصاً لشعراء عرب مثل نزار قباني ومحمود درويش وفدوى طوقان. الأمر الذي ضاعف عندي الشعور بأن النزوع اللاشعوري لدى الإنسان، وهو يتعرف إلى الإنترنت، يتجه دائماً نحو فيض الشعر فيما يتعامل مع هذا الأفق اللانهائي، ففي هذا ضرب من جواب فاتن للذين لن يكفوا الكلام في موت الشعر في حضور التقدم الإلكتروني. ولا تنقطع تجربة الشاعر حداد في أعماله النثرية عن أعماله الشعرية التي جعل منها مشاريع ثقافية تتحاور مع اللون والضوء والحركة، في أعمال مشتركة مع رسامين ومصورين ومسرحيين وموسيقيين. ففي أعماله الشعرية – غير الكاملة- صدرت في مجلدين (2000) جمع فيها دواوينه الشعرية منذ عام 1970 حتى 1996) وهي على النحو التالي: " البشارة - البحرين - أبريل1970،خروج رأس الحسين من المدن الخائنة - بيروت - أبريل 1972،الدم الثاني - البحرين - سبتمبر 1975،قلب الحب - بيروت - فبراير 1980،القيامة - بيروت – 1980،شظايا - بيروت – 1981،انتماءات - بيروت – 1982،النهروان - البحرين – 1988، يمشي مخفوراً بالوعول - لندن – 1990،عزلة الملكات - البحرين – 1992، أخبار مجنون ليلى ( بالاشتراك مع الفنان ضياء العزاوي) لندن / البحرين – 1996، قبر قاسم (1999)". وأصدر خارج المجلدين دواوين شعرية أخرى: علاج المسافة (2000)،أيقظتني الساحرة ( 2004)، ما أجملك أيها الذئب ( 2006)، لست ضيفاً على أحد ( 2007)، إيقاظ الفراشة التي هناك (2010). بالإضافة إلى عمله الشعري الكبير "طرفة بن الوردة" (2011)، ومختارات شعرية " لست جرحاً ولا خنجراً " (2012). عن السيرة المحتملة لحداد ولد في المحرق (1948) ودرس فيها. عمل في المكتبة العامة منذ عام 1968 حتى عام 1975، ثم في إدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام من عام 1980. شارك في تأسيس (أسرة الأدباء والكتاب في البحرين) عام 1969. تولى رئاسة تحرير مجلة كلمات التي صدرت عام 1987 عضو مؤسس في فرقة (مسرح أوال) العام 1970. ولا زال يكتب مقالاً أسبوعياً منذ بداية الثمانينات بعنوان (وقت للكتابة) ينشر في عدد من الصحافة العربية. وقد حصل على إجازة التفوق للعمل الأدبي من طرف وزارة الإعلام نهاية عام 1997.