في تعريف قدامة بن جعفر للشعر ترد عبارة أصبحت محوراً للعديد من الحوارات حول التجديد في الشعر الحديث، خاصة عند من يعارضه، والعبارة ترد هكذا: الشعر كلام موزون مقفى؛ ومع أن ما يرد بعد هذه العبارة له دلالة عميقة وهو قوله (يدل على معنى) إلا أن وصف الشعر أصبح مرتبطا بالجزء الأول لأنه -ربما- يحمل التعريف الذي يفرق بين الشعر وسائر فنون القول الأخرى. لكن التعريف كما أورده قدامة لم يفتح آفاقاً جديدة في القول الشعري لأن تفسير العبارة جاء مبنياً على الأمثلة الشعرية السابقة لها، فالعبارة وصف لمجموع من النماذج التي تحمل عناصر مؤتلفة، لكن التعريف عند النظر فيه بمعزل عن النماذج يحمل مساحة أوسع لما يمكن أن يحقق شروط العبارة وبما يختلف عن أمثلة عصره. لكن المثال أو الأنموذج الذي ارتبط بالعبارة استمر مقيداً للاحتمالات الشكلية الأخرى، فما كان غير النموذج السابق للتعريف، الذي استمد منه المعرف العبارة، فإنه غير داخل في المراد بالشعر، وهذا هو ما جرى عليه الفهم لمعنى العبارة «كلام موزون مقفى» حيث يستحضر النموذج لفهمه حتى أصبح النموذج جزءا من التعريف. ورغم أن تعريف الشعر أخذ منحى تفصيليا عند من جاء بعد قدامة كالآمدي في عمود الشعر، إلا إن الأنموذج الشعري استمر مهيمناً على العبارة بحيث يصعب الخروج عليه، ويتبين هذا التصور مع ظهور أمثلة شعرية خالفت السائد لكنها لم تبتعد كثيراً عن النموذج مثل الموشحات والرباعيات في عدد من العصور، إلا أن العصر الحديث كان كفيلا باختبار سعة التعريف وما يرتبط به من نماذج عندما ظهر شعر التفعيلة، الذي أطلق عليه حينها الشعر الحر.. فقد جاء شعر التفعيلة بنموذج جديد يبتعد أكثر عن النموذج المطروح، فتبين حينئذ من حديث المعارضين أن الولاء ليس للتعريف رغم أنه يرد كثيراً في سياق المعارضة، لكنه للنموذج. أي أن تعريف قدامة بن جعفر الذي يشيع في الاستدلال بمفهوم الشعر يتسع لنماذج كثيرة لم يتخيلها مستخدم العبارة وربما صائغها قدامة بن جعفر نفسه.. فعبارة «كلام موزون مقفى» لا تدل على أي وزن محدد ولا إلى قافية محددة، بل إن العبارة لا تقيد الشكل إن كان مفرداً أو متعدداً، كما هي عليه الموشحات. لكن جاء شعر التفعيلة -أول الأمر- بنموذج يعدد من القوافي ولا يلغيها، لذا سمي أول الأمر حراً لتحرره من انتظام القوافي وانتظام الأوزان، لا حراً من القافية والوزن. أي أن شعر التفعيلة لم يخرج على التعريف لكنه خرج على النموذج. بل إن شعر التفعيلة في بداياته كان متأثراً بالنموذج حتى أن المحاولات الأولى كانت تتجه إلى تقييده بعدد من التفعيلات في محاولة لتقنين السطر الشعري، لكنها محاولات لم تجد قبولاً وتجاوزها الشعراء سريعا. لكن مع كل ذلك، ظل تعريف قدامة بن جعفر للشعر ملائماً للعصر الحديث، من حيث ما يحد الشعر شكلاً، رغم المفارقة في الاستدلال بالعبارة انتصاراً لنموذج دون آخر. بل إن عبارة «كلام موزون مقفى» تشير إلى فتح المجال لتعدد النماذج في دائرة تعريفية واحدة. فالشعر العمودي يقع في الدائرة نفسها التي يقع فيها شعر التفعيلة، ورغم أن مصطلح (التفعيلة) أصبح مقبولا لوصف الشعر غير العمودي إلا أنه يحمل إشكالًا كون التفعيلة مادة الشعر العمودي نفسه، أي أن الشعر العمودي شعر تفعيلة أيضا. يتضح ذلك من عبارة تشيع اليوم عند شعراء قصيدة النثر تصف الشعر العمودي والتفعيلة بشعر الوزن، والعبارة صحيحة لكنها ترد نتيجة للحاجة إلى التفريق بين نموذجين، نموذج متوافق مع تعريف قدامة بن جعفر، وهو الشعر العمودي والتفعيلة؛ وشعر لا يتوافق مع تعريفه، وهو قصيدة النثر.