تتباين الآراء حول بدايات قصيدة النثر في العالم العربي، لكنها تكاد تتفق أنها سبقت شعر التفعيلة الذي بدأ في الأربيعينات الميلادية، ومع ذلك فقد أثبتت قصيدة التفعيلة حضور كعبها في التجربة العربية الحديثة، حتى لدى شعراء عرفوا بعمقهم الإيقاعي كنزار قباني وغازي القصيبي مثلًا، والسبب البسيط يعود إلى الإيقاع الخارجي الذي بقي مع قصيدة التفعيلة رغم حرية القافية، فلم تتغير النغمة التي ألفتها الأذن العربية حتى إن عبدالله الغذامي يرى في قصيدة التفعيلة ذات التعريف الذي ارتبط بالقصيدة العربية القديمة عند قدامة بن جعفر الذي يعرف الشعر بأنه: “قول موزون مقفّى يدل على معنى” (1). وما سبق يدل على أن الأذن العربية لم تتغيّر رغم قرابة القرن على ظهور قصيدة النثر، ولم تستطع تلك القصيدة برغم صدماتها الفنية، وبرغم إيقاعاتها الداخلية وأربطتها اللامرئية أن تقنع أذن المتلقي العربي فضلًا عن المتلقي للتجربة في السعودية الذي يتأخّر كثيرًا في قبول الجديد! من هنا نستطيع أن نقول: “إن قصيدة النثر تعيش أزمة في التلقي والقبول لدى الجمهور العربي، وأعجب أن تعقد لها المؤتمرات الآن، وتجهد في إثبات شرعية نسبتها لحرم الشعر بعد عمر يقارب القرن؛ ولذا فإن في اعتقادي أنه يجب أن نرفع الحظر والوصاية عن هذه التجربة، ونترك لها مواجهة مصيرها، وسيثبت امتحان الزمان قبولها بعد أو رفضها. لكنْ من المبشّرات المعاصرة لشعراء قصيدة النثر اقترابها من التقنية بشكل لافت، وفي اعتقادي أن تلك المقاربات الواعية مع التقنية، ستحاول سد ثغرة الإيقاع؛ فاعتماد الأماسي الشعرية لقصيدة النثر على عناصر التلقي الجديدة الملتيميديا القائم على (الصوت والصورة والإيقاع) سيكون منعطفًا مهمًّا إذا أحسن استخدامه حيث يدعم الحضور النصي بالعناصر الأخرى، وقد وجدت عدة نماذج لتلك القصيدة على اليوتيوب كنموذج نصوص حنان بوحيمد، وكذا النصوص الشعرية لمي كتبي كنصّها «صانع الفرح (2)، ونصها في رثاء رفيق الحريري، وهي نصوص دعمت فيها الحضور النصي بعناصر الصوت والصورة، ومثل ذلك يشكّل منعطفًا جديدًا في علاقة نص قصيدة النثر بالمتلقي. ومن المقاربات الشعرية الحديثة استخدام البطاقات الشعرية (Poetry Cards) التي تصاحب الأعمال النصية عند الشعراء، لتضيف على النص بعد الصورة واللون، كنموذج نص الشاعر محمد خضر الذي كُتب على البطاقة الشعرية الموضحة في الشكل (1). نلاحظ أن محمد خضر قد دعم نصه النثري المليء بالسوداوية بخلفية سوداء للبطاقة، وعند تقري لغة نصه نجد أن هناك فصامًا شعريًّا ظاهرًا بين براءة الطفولة، التي اختارها للعنوان، وبين النص المليء بتشظيات حزينة هي أكبر من مقدرات طفل: الطفل الذي تاهت روحه كثيرًا وصارت ملامح غائمة تمامًا ها هو يمضي وحيدًا كما أشارت له العرافة حتى قبل أن يولد! ها هو كما كان بالضبط خائف؛ لأنه يفهم السراب وهادئ؛ لأن الليل يبتدئ الآن (3) النص يجيب على ما قلناه من أن دلالاته قد لا تتصل ببراءات الطفولة، بل هو تفكير مزدوج؛ ولذا أحسنت الصورة التقنية في تفتيق كثير من دلالات النص الغائمة، فنرى صورة الطفل في مقابلة ازدواج يعبّر عنه النص، الذي يتجاذب فيه الطفل مع معطيات أخرى متعددة. الهوامش (1) الصوت القديم الجديد. سلسلة كتاب الرياض 66 (الرياض: مؤسسة اليمامة الصحفية،1420 ). (2) http://www.youtube.com/watch?v=wXYRsHDx6As (3) النص في ديوانه بعنوان (طفولة)، المشي بنصف سعادة، ص 66- 67. وأقدم شكري للشاعر محمد خضر الذي أفادني كثيرًا في جمع مادة هذه الدراسة. شكل (1) نص طفولة لمحمد خضر على بطاقة شعرية (Poetry Card) (*) أكاديمي. عضو مجلس إدارة أدبي أبها