في 20 أيلول سبتمبر 2014، وقعت الحكومة الأوكرانية والجماعات المسلحة في شرق البلاد مذكرة لوقف إطلاق النار، من المؤمل أن يدفع إنجازها باتجاه إعادة إنتاج أقل عنفاً للأزمة القائمة. وقد نص الاتفاق، ضمن أمور عدة، على إقامة منطقة منزوعة السلاح، على عرض ثلاثين كيلومتراً، وعدم دخول كافة المجموعات المسلحة والمقاتلين والمعدات العسكرية إلى هذه المنطقة، وسحب المدفعية الثقيلة من الجانبين لمسافة 15 كيلومتراً. إننا نقف اليوم أمام منعطف كبير في بيئة النظام الدولي. وهو منعطف سوف يعكس نفسه في صورة استقطابات متعددة، لا يبدو أن أحداً سيكون بمنأى عنها، أو عن تداعياتها في الحد الأدنى هذا الاتفاق هو الآن موضع اختبار. لم يشهد تماسكاً كاملاً، ولازالت تتخلله اشتباكات متقطعة. الجيش الأوكراني أعلن من ناحيته أنه غير مستعد لاحترام جميع النقاط الواردة في مذكرة الاتفاق، وخاصة لجهة سحب المدفعية، "لأن وقف النار لم يطبق بشكل تام". وفي الأصل، لم تشمل مذكرة الاتفاق منطقتي لوغانسك ودونيتسك، التي أعلن المسلحون عن إقامة دولتين مستقلتين فيهما، من جانب واحد. وبعد توقيع مذكرة وقف إطلاق النار، قال متحدث باسم المسلحين، مشيراً إلى مستقبل المنطقتين: "لن نكون جزءاً من أوكرانيا متحدة... يُمكننا أن نحافظ على نموذج اقتصادي، ما يسمح لنا بعدم قطع العلاقة معها، أو الاحتفاظ ببعض الروابط الاجتماعية والثقافية... لقد نلنا هذا الحق بدمائنا." وفي الأصل، هناك وقف لإطلاق النار مطبق جزئياً منذ الخامس من أيلول سبتمبر. وقد تفاوض عليه مندوبون عن أوكرانياوروسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فضلاً عن المسلحين الأوكرانيين. وقبل التطوّرات الأخيرة بأيام، أقر البرلمان الأوكراني، في السادس عشر من أيلول سبتمبر 2014، قانوناً يمنح المناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة المسلحين "وضعاً خاصاً"، ينطوي على قدر محدود من الحكم الذاتي لفترة ثلاث سنوات. وقد سارع المسلحون لرفض هذا القانون، قائلين إنه لا يعنيهم في شيء. ومناطق الشرق والجنوب الشرقي الأوكراني متمايزة ثقافياً وعرقياً عن بقية أنحاء البلاد، وتعتبر نفسها جزءاً من الحضارة والأمة الروسية. وتعتبر هذه المناطق، في الوقت نفسه، مركز الثقل الصناعي في أوكرانيا. ومن دونها، أو بلحاظ اضطرابها الأمني، يبدو الاقتصاد الأوكراني في مهب الريح. وقد أسفر الصراع في شرق أوكرانيا عن خسائر مادية وبشرية جسيمة، وذلك منذ اندلاعه قبل خمسة أشهر. وسجل حتى الآن أكثر من 2900 قتيل وما يزيد على 600 ألف مشرد، نزحوا نحو روسيا، أو فرو إلى مناطق أوكرانية أقل اضطراباً. وفيما بدا نوعاً من شد الحبل مع المسلحين في شرق البلاد، أعلن الرئيس الأوكراني، بترو بوروشنكو، أن أوكرانيا على استعداد للدفاع عن نفسها عسكرياً، إذا فشلت عملية السلام. وقال بوروشنكو: "ينبغي أن نعزز جيشنا وخطوطنا الدفاعية .. يتعين أن نمتلك ما نحن بحاجة إليه: معدات للمراقبة ورادارات". وكان الرئيس السابق، فيكتور يانوكوفيتش، قد وقع في تشرين الأول أكتوبر 2013 مرسوماً ألغى بموجبه نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، لمصلحة الخدمة في الجيش عبر التعاقد. ويبدو أن معطيات اليوم قد دفعت باتجاه إعادة التفكير في هذا المرسوم. وأعلنت الحكومة الأوكرانية أنه سيجري إنفاق نحو ثلاثة مليارات دولار على إعادة تجهيز الجيش في الفترة بين عامي 2015 و2017. وفي السياق، قالت السلطات بأن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) قد بدأت في تسليم أسلحة ومعدات عسكرية للجيش الأوكراني. وكان الناتو قد أعلن مؤخراً بأنه لن يقدم "مساعدات قتالية" لأوكرانيا، ولكن بمقدور الدول الأعضاء فيه أن تفعل ذلك منفردة. وتحاول الدولة الأوكرانية الإفادة من المعطيات المحلية الراهنة من أجل تسريع قبولها في عضوية الناتو، التي سعت إليها في فترات مختلفة. وقبل سنوات، كانت مقاربة ارتباط أوكرانيا بهذا الحلف قد بدت على درجة كبيرة من التعقيد السياسي والقانوني. ولذا جاء قرار قمة الناتو في بوخارست عام 2008 باستبعاد ترشيحها للعضوية، في حين جرى ضم كل من ألبانيا وكرواتيا، لتكونا العضوين 27 و28 بالناتو. وفي تلك القمة، أعربت ثماني دول أعضاء عن معارضتها ترشيح أوكرانيا، خشية إثارة المزيد من التوترات مع روسيا. وكانت أوكرانيا في طليعة شركاء الناتو الذين اقترحوا المشاركة في قوات الرد السريع الأطلسية. وهي الدولة الوحيدة بين شركاء الحلف التي كانت تساهم في ثلاث عمليات تحت قيادته: في كوسوفو، وأفغانستان، وما يعرف بعملية "المجهود النشط" في البحر الأبيض المتوسط. كما أرسلت أوكرانيا أكثر من 1500 فرد من قوات حفظ السلام إلى العراق، عملت تحت مظلة القوات التي قادتها بولندا. في المقابل، تشهد العلاقات الأوكرانية الروسية توتراً كبيراً، يُعد الأشد من نوعه منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي. وفي الأصل، تعتبر أوكرانيا دولة شقيقة لروسيا بالمعيارين العرقي والمذهبي. وقد ظلت على مدى قرون ركناً أساسياً في القوة السلافية الأرثوذوكسية. وكانت مندمجة في روسيا منذ القرن السابع عشر. ومن أصل سكانها، البالغ حالياً نحو 46 مليون نسمة، هناك أكثر من 17 مليوناً ينحدرون من أصول روسية، وتعتبر اللغة الروسية لغتهم الأم. وفي العام 2004، اندلعت في أوكرانيا ما عُرف ب "الثورة البرتقالية"، التي كان الابتعاد عن روسيا شعاراً محورياً فيها. وقد أفرز عداء هذه الثورة لروسيا حالة من الاستقطاب الداخلي العنيف، الذي كاد يشعل حرباً أهلية شاملة. وفي ذلك الوقت أيضاً، كانت الوحدة الترابية لأوكرانيا على كف عفريت، حيث سادت خشية من انفصال المناطق الشرقية والجنوبية. الموجة الأخرى من التوترات الروسية الأوكرانية، جاءت في العام 2014 بعد الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، حليف موسكو الأول في أوكرانيا. وبفقده فقدت روسيا رهاناً جيوسياسياً كبيراً في أوروبا. وهنا، كان انفصال شبه جزيرة القرم، وانضمامها إلى الدولة الروسية، نتاجاً مشتركاً لحسابات الداخل والخارج معاً. ومنذ سنوات، حذر معلقون روس من أن الفصل بين موسكو وكييف من شأنه أن يسهم في تعزيز المطالبين بدعم خيار تقسيم أوكرانيا. ورأى هؤلاء أن أوروبا ستواجه حينها أزمة شبيهة بالأزمة اليوغسلافية، قد تقضي بصورة نهائية على آمال الأوروبيين بأن يكونوا يوماً القوة الأساسية في العالم الجديد. ومن ناحيته، لم يتخل الغرب عن رهانه على أوكرانيا أطلسية، تربط شرق أوروبا بالقوقاز وآسيا الوسطى، وتكون همزة وصل بين البحر الأسود وبحر قزوين، وممراً للنفط والغاز القادم من الشرق. وثمة اعتقاد اليوم بأن الغرب سوف يُسرّع في ضم أوكرانيا إلى مؤسساته المختلفة، وقد يترجم ذلك بداية في حصولها على عضوية حلف الناتو، وتجاوزت العقبات القانونية والتقنية التي حالت دون هذا الأمر. والأهم من ذلك، تجاوز مخاوف روسيا وهواجسها. وفي رد فعله على التطورات المستجدة، أعلن الناتو عن إرسال طائرتي استطلاع بعيدتي المدى للقيام بدوريات على طول الحدود الأوكرانية، في المجالين الجويين لبولندا ورومانيا. ولكن دون دخول المجال الجوي الأوكراني. وفي جانب آخر من التحركات الأطلسية، دخل البحر الأسود، في التاسع من أيار مايو 2014، الطراد الأميركي "فيلا غلف"، المزود بمنظومة "إيجس" المضادة للصواريخ. ويُمكن للرادار التابع لهذه المنظومة رصد 250 – 300 هدف، ومرافقتها وتوجيه صواريخ إليها. أما الطراد نفسه فمزود أيضاً بصواريخ جوالة من طراز (Tomahawk)، وصواريخ مضادة للغواصات. وقبل ستة أعوام، وفي تطوّر كان الأول من نوعه، فرض الناتو، على مدى أسبوعين، سيطرته على البحر الأسود. وثبت أساطيله في كامل قطاعيه الجنوبي والغربي، وغالبية قطاعه الشمالي، وبعض من ساحله الشرقي. وكانت تلك إحدى تداعيات الحرب الروسية الجورجية في صيف العام 2008. وأياً يكن الأمر، فإننا قد نكون اليوم أمام مشهد جديد في بيئة النظام الدولي، تشكله إعادة إنتاج العلاقة بين الشرق والغرب. وذلك سوف يتوقف، ضمن أمور أخرى، على المسار الذي تسلكه الأزمة الأوكرانية. لا أحد على الأرجح يُريد حرباً باردة جديدة، لكن هذه الحرب قد وقعت، والحديث الآن عن كيفية إدارتها، لا عن إثبات وجودها من عدمه. إن تهديد روسيا بإعادة النظر في اتفاقية "ستارت – 2" هو تطوّر كبير في حسابات السياسة والأمن معاً. والأمر ذاته ينطبق على تعزيز قواتها على حدودها الشمالية الغربية، وفي بيلاروسيا. أما تجميد برامج التعاون العسكري بين الغرب والروس، فهو إيذان بنهاية الوفاق في السياسة الدولية، وقد يكون بداية لفك الارتباط السياسي في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط. هذا هو تعريف الحرب الباردة، وهذا هو جوهرها. وبعد ذلك، فإن الحديث يقتصر على حجم الهوة وطبيعتها، وماهية العواقب التي يُمكن للمرء أن يتوقعها. إننا نقف اليوم أمام منعطف كبير في بيئة النظام الدولي. وهو منعطف سوف يعكس نفسه في صورة استقطابات متعددة، لا يبدو أن أحداً سيكون بمنأى عنها، أو عن تداعياتها في الحد الأدنى.