في أحد اللقاءات الإذاعية سألني المذيع عن أغرب قصة مرت بي خلال رحلاتي فأخبرته بقصة حقيقية عن قرد سرقني في قرية اوبود في جزيرة بالي .. ففي نهاية الشارع الرئيسي (الذي يدعى طريق القرود) توجد محمية طبيعية تعيش فيها القرود بنعيم وحرية. ومن فرط تعودها على السياح بلغت بها الجراءة حد التصارع على حبات الموز التي كنت أحملها فور دخولي باب المحمية.. وفي خضم الصراع معها لمحت عن بعد قرداً حكيماً رفض مزاحمة زملائه القرود وبقي ساكناً فوق شجرة مقابلة.. ولكن، ما أن مررت تحته حتى قفز على ظهري وخطف نظارتي بسرعة كبيرة وخفة مدهشة.. وبسبب شعوري بالصدمة وعجزي عن تقليد طرزان ومطاردته فوق الأشجار استسلمت لقدري وقررت العودة لفندقي القريب لإحضار نظارتي الأخرى (وحمل نظارة احتياطية بالمناسبة من أبجديات السفر).. غير أن طفلاً صغيراً اعترضني وسلمني نظارتي المفقودة وعلى وجهه ابتسامة عريضة.. ومن فرط فرحتي بعودتها (ومن يلبس النظارات يعرف قصدي) ناولته مبلغاً كبيراً دون أن تسعف اللغة كلينا لتفسير ماحدث. وما أن دخلت الفندق حتى رويت القصة لموظف الاستقبال الذي قال ببرود: القرد ملكٌ للطفل.. قلت: ماذا تعني!؟ هل تعني أن الطفل دبر الحادث.. قال: نعم؛ الطفل يدرب القرد على سرقة نظارات وحقائب وساعات السياح ثم يعيدها إليهم لاحقاً مقابل أجر معين.. فقلت وقد تحولت فرحتي لغضب ولكن هذه سرقة صريحة في محمية حكومية.. فقال بجدية: ليست سرقة بل مهنة شريفة يمارسها الأطفال الأيتام فقط، ولو كانت سرقة لما أعادوا للسياح ساعات ونظارات تفوق "البقشيش" الذي يقدم إليهم!! ... أيضا هناك قصة نالت شهرة واسعة بين علماء الأحياء والسلوك كتبها عام 1979عالم أمريكي يدعى ليال واتسون.. كانت عن قردة برية تعيش على جزيرة كواشيما اليابانية تخضع لمراقبة مجموعة من علماء الحيوان اليابانيين. وكي يتاح لهم مراقبتها بسهولة كانوا يضعون لها الطعام في مناطق مكشوفة قرب الشاطئ.. وذات يوم اكتشفت قردة اسمها "ايمو" أنه يمكن إزالة الرمال والأوساخ عن الفواكه بغمسها في مياه البحر. وقد نقلت هذه الخبرة لزوجها وأطفالها والمحيطين بها. وشيئاً فشيئاً انتشرت هذه العادة بين قردة الجزيرة وأصبحت لا تأكل الفواكه الا بعد غسلها بمياه الشاطئ. وبحلول عام1985 أصبح هناك أكثر من مئة قرد ترفض تناول الثمار قبل غسلها بالماء.. ليس هذا فحسب بل انتقلت هذه العادة إلى الجزر المحيطة وأصبحت ملاحظة لدى القردة فيها!! .. هاتان القصتان تعدان دليلاً على إمكانية تطور ذكاء وسلوك الحيوانات إلى حدود مدهشة.. ولكنهما لا يجب أن تؤخذان كدليل على إمكانية تطور ذكاء أو سلوك الحيوانات إلى مستوى الإنسان.. فذكاء الإنسان نوعي ويسير في سياق مختلف عما هو معروف لدى الحيوانات.. إذ يمكنك تدريب القرد والحصان والفيل والدولفين (وهي أذكى الحيوانات) ولكن بطريقة المكافأة على الفعل (كأن تمنح الحصان قطعة سكر بعد كل تصرف إيجابي) بحيث تترسخ في جهازه العصبي سلسلة أفعال متتالية ومدهشة.. وهي تصرفات تبدو من الخارج وكأنها ناجمة عن إرادة الحيوان نفسه، في حين أنها في الحقيقة مجرد ردود أفعال متسلسلة يتم تدريبه عليها مسبقاً (لهذا السبب تعطى الجوائز والمكافآت للمدربين وليس للحيوانات).. أضف لذلك أن تفوق البشر على مجمل الخلق لا يعود فقط إلى ذكائه النوعي فقط بل إلى امتلاكه يداً تبني، ولساناً يعبر، وأصابع تدون، وخبرات ومعارف يتم مراكمتها جيلاً بعد جيل.. بدون شك؛ لا يمكن للقردة التطور لمستوى الإنسان، ولكن بدون شك أيضاً يمكن تدريب الشعوب على التصرف بحسب "ذكاء السيرك"!