في يونيو 2007 تعرضت لمقلب طريف في قرية يوبود (في قلب جزيرة بالي الاندونيسية) .. ففي نهاية الشارع الرئيسي (ويدعى طريق القرود) توجد محمية طبيعية تعيش فيها القرود بنعيم وحرية . ومن فرط تعودها على السياح لم تعد تقتات على نباتات الغابة بل على حبات الموز والفاكهة التي تقدم إليها بطيب خاطر . وبلغت بها الجرأة حد التصارع على حبات الموز التي كنت أحملها فور دخولي باب المحمية .. وفي خضم الصراع معها لمحت عن بعد قردا حكيما رفض مزاحمة زملائه القرود وبقي ساكنا فوق شجرة مقابلة .. ولكن ، ما أن مررت تحته حتى قفز على ظهري وخطف نظارتي بسرعة وخفة مدهشة .. وبسبب شعوري بالصدمة وعجزي عن تقليد طرزان ومطاردته فوق الأشجار استسلمت لقدري وقررت العودة لفندقي القريب لإحضار نظارتي الأخرى .. غير أن طفلا صغيرا اعترضني في منتصف الطريق وسلمني نظارتي المفقودة وعلى وجهه ابتسامة عريضة .. ومن فرط فرحتي بعودتها (ومن يلبس النظارات يعرف قصدي) ناولته مبلغا كبيرا دون أن تسعف اللغة كلينا لتفسير ماحدث . وما أن دخلت الفندق حتى رويت القصة لموظف الاستقبال الذي قال ببرود ودون أن يرفع رأسه عن الورق : القرد ملك للطفل .. فقلت : ماذا!؟ هل تعني أن الطفل دبر الحادث! .. قال : نعم ؛ الطفل يدرب القرد على سرقة نظارات وساعات السياح ثم يعيدها لاحقا مقابل أجر معين .. فقلت وقد تحولت فرحتي لغضب ولكن هذه سرقة صريحة في محمية حكومية .. فقال بجدية : ليست سرقة بل مهنة شريفة يمارسها الأطفال الأيتام فقط، ولو كانت سرقة لما أعادوا للسياح ساعات ونظارات تفوق "البقشيش" الذي يقدم إليهم !! .. هذه الحادثة تشرح بنفسها غرابة بعض المهن التي قد يمارسها البشر حول العالم .. فرغم أن الناس يكسبون رزقهم بالآف الوسائل المعروفة والمشتركة ، إلا أنهم يكسبون رزقهم أيضا بطرق محلية نادرة وغريبة .. وأذكر شخصيا مهنا عجيبة كانت شائعة أيام طفولتي اختفت حاليا ؛ فقد كان هناك رجل من بخارى يدور في حينا لشحذ السكاكين والسيوف، وحجاج من الهند يمتهنون "تكبيس" الظهور وفرك الأقدام، وحتى وقت قريب كان يعمل في مساجد المدينة الكبيرة رجال مهمتهم قذف الحمام بكرات من الصوف (كي لايترك فضلاته فوق العوارض والأعمدة) !! أما في تراثنا العربي فهناك كتاب بهذا المعنى يدعى "المختار في كشف الأسرار" يشرح فيه عبدالرحمن الجوبري مهنا غريبة كانت سائدة في عصره .. فهناك مثلا: مدعو النبوة، وضاربو الحصى، وقارئو الرمل، وضيوف الغفلة ، وأطباء الطريق ، والذين يقطعون الشرناق من العين، والدود من الضرس، والذين يصبغون الخيل، ويصبغون البشر، ويضربون الصبيان، ويؤجرون المردان، ويأكلون الجمر، ومن يدخلون التنور ويخرجون بلا أذى .... أما حول العالم فكانت العادات في جزر البهاما تشترط أن تكون الفتاة (غير عذراء) قبل زواجها كدليل على نضجها وتحملها المسؤولية .. وهذا الشرط الغريب خلق مهنة أكثر غرابة يمارسها رجال أتقياء مهمتهم فتح الطريق أمام الزواج السعيد ... وفي جنوب أفريقيا كانت المحاكم توظف (أيام الحكم العنصري) شمامين مهمتهم تحديد أصول الملونين من خلال روائح آباطهم .. وفي ماليزيا رأيت أطفالا صغارا يمتهنون اصطياد العقارب السامة والخنافس النادرة لبيعها على السياح اليابانيين .. أما في الهند فتوجد قبيلة منبوذة يتخذ أبناؤها من اصطياد جرذان وأكل الفئران مهنة لهم .. فحين تنتشر الفئران في إحدى المزارع يستدعي المالك احدى عائلات الكاراباتي للقضاء عليها .. ولأن "أكل العيش صعب" تسكن هذه العائلة في المزرعة لفترة كافية تتصيد خلالها الفئران وتأكلها مشوية أو مطبوخة حتى تنتهي تماما !! ..... وأرجو المعذرة .. لم أخبركم عن وظيفة "مكحل عيون السلق" !؟