صحيح أن المظاهرة الضخمة التي نظمها انفصاليو منطقة كاتالونيا الإسبانية يوم الحادي عشر من شهر سبتمبر الجاري في مدينة برشلونة عاصمة المنطقة الإدارية والاقتصادية كان قد أعد لها بشكل جيد لأن هذا العام ينهي ثلاثة قرون على سقوط المدينة بين أيدي القوات الفرنسية والإسبانية والتحاقها بالمملكة الإسبانية. ومع ذلك فإن عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين تجاوز عددهم المليون، قرروا رفع شعارات الانفصال يومها ومنها الشعار الذي يقول "بلى نحن مع القطيعة" لأنهم كانوا مرتاحين جدا لنتائج عمليات استطلاع الرأي التي أجريت خلال الأسابيع الأخيرة في اسكتلندا والتي تخلص إلى أن فرضية انفصالها عن المملكة المتحدة أصبحت فعلاً فرضية جادة عقب الاستفتاء الذي سيجري في الثامن عشر من شهر سبتمبر الجاري. وإذا كان انفصاليو اسكتلندا قد سمح لهم من قبل المملكة المتحدة بتنظيم هذا الاستفتاء، فإن السلطة المركزية في مدريد رفضت الاستجابة للانفصاليين الكاتالونيين الذين يطالبون منذ سنوات بالمشاركة في استفتاء في هذه المقاطعة بهدف الانفصال عن المملكة الإسبانية. وحجة السلطات الإسبانية في رفض هذا الاستفتاء هي أن دستور البلاد الذي تم اعتماده من خلال استفتاء شارك فيه كل الإسبان يمنع إجراء استفتاء يكون حكرا على سكان منطقة من مناطق البلاد. وعلى غرار الكاتالونيين، يتابع سكان مقاطعة الباسك الإسبانية هم الآخرون ما يجري في اسكتلندا اليوم وينتظرون بفارغ صبر يوم الثامن عشر من شهر سبتمبر الجاري لأنهم يطالبون بدورهم بانفصال منطقتهم عن إسبانيا. وفي حال قيام دولتين جديدتين يوما ما على أراضي منطقتي كاتالونيا والباسك، فإنهما تصبحان البلدين الذين يقعان بين فرنسا وإسبانيا. وما يجعل أعين كل انفصاليي أوروبا مركزة على دنبرة هذه الأيام هو أن اسكتلندا وكاتالونيا لديهما من الموارد الاقتصادية والبنى التحتية والمؤسسات الإدارية القوية والمتماسكة ما يسمح للدولتين الفتيتين في حال إطلاقهما يوما ما بتجاوز كثير من المشاكل التي تواجهها الدول الفتية في العالم بعيد إنشائها. زد على ذلك أن جزءاً هاماً من سكان اسكتلندا وكاتالونيا واعون اليوم إلى حد كبير بالمكاسب التي سيخسرونها في حال انفصالهم عن المملكة المتحدة أو المملكة الإسبانية. بل إنهم أصبحوا منذ أشهر يحظون باهتمام كبير لدى حركات انفصالية في دول أخرى منها على سبيل المثال تلك التي يقودها الفلمنكيون في بلجيكا و"رابطة الشمال" في إيطاليا. وتدرك هذه الحركات كلها الحجة التي يستخدمها المعترضون على مبدأ الانفصال في كل هذه الدول الأوروبية وبخاصة السلطات الحاكمة. ويمكن اختزالها بجملة واحدة هي التالية: "سيندم الانفصاليون لأن ظروفهم المعيشية ستسوء بعد الانفصال". ولكن الحركات الانفصالية تسخر من هذه الحجة وترد عليها بحجة أخرى هي أن الأنظمة المركزية قد فشلت خلال العقود الأربعة الماضية في تحويل مفهوم "الدولة الأمة" الكبيرة إلى مفهوم قادر على أخذ هموم المواطنين اليومية بعين الاعتبار لاسيما على المستوى المحلي. وبقدر ما ينتظر دعاة الانفصال يوم الاستفتاء الاسكتلندي بفارغ صبر، بقدر ما تتخوف منه السلطات المركزية في المملكة المتحدة وإسبانيا وفي بلجيكاوإيطاليا ودول أخرى تابعة للاتحاد الأوروبي. كما تشعر مؤسسات الاتحاد الأوروبي بقلق كبير إزاء هذا الاستحقاق. فمن الأسئلة الشائكة التي تطرح اليوم في لندنومدريد تلك التي يمكن صياغتها على النحو التالي: كيف ستكون سياسة المملكة المتحدة في مجال الطاقة في حال انفصال استقلال اسكتلندا التي ستتحكم مبدئيا في كل نفط بحر الشمال المستغل من قبل الشركات النفطية البريطانية؟ ما مصير المنشآت النووية البريطانية الموجودة في اسكتلندا؟ كيف سيكون اقتصاد إسبانيا بدون إسهام كاتالونيا الهام فيه؟ إلى متى سيظل سكان المناطق الإسبانية التي ستبقى جزءا من المملكة الإسبانية حريصين على مقاطعة المنتجات الكاتالونية في حال انفصال كاتالونيا؟ وأما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فإن مؤسساته لديها اليوم أطر قانونية تسمح لدول منخرطة فيه بالخروج منه إذا رغبت في ذلك. ولكنه ليست لديها أطر قانونية تبت في المناطق الأوروبية التي تنفصل عن هذه الدولة أو تلك من دول الاتحاد وترغب في الانضمام إليه بعد الانفصال. ولأن كان مسؤولو المؤسسات الأوروبية واعين اليوم بأن وزن بريطانيا العظمى وإسبانيا في الاتحاد الأوروبي يمكنهما من تعطيل أي مشروع للانضمام إلى الاتحاد يقدم من قبل مناطق قد تنفصل عن هذين البلدين، فإنهم يدركون جيدا أن سيناريو الانفصال في حال تحققه ضربة موجعة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي لأنه بكل بساطة يتعارض مع مشروع ما انفكت المؤسسات الأوروبية المشتركة أو الموحدة تسعى إلى غرسه في أذهان الأوروبيين منذ أكثر من نصف قرن هو مشروع المواطنة الأوروبية.