انتصرت غزة أو هزمت ليس هو المعنى المطلق للقضية، وإنما كيف نوقف معاناة أربعة أجيال من هذا الشعب دفعوا كل شيء بتضحيات غير مسبوقة، ولكنهم مثلما كانوا ضحية بناء كيان صهيوني على أرضهم واقتلاعهم، فهم ضحية تعدد الانتماءات والولاءات والتي فسرت بأن الغريق يبحث عن النجاة بأي وسيلة، لكن عدم الحياد في قضايا عربية وإقليمية كشف في الأحداث الأخيرة عن ضعف التأييد الشعبي العربي، بينما تصاعد عالمياً وداخل قلاع دول تعتبر إسرائيل حليفاً تاريخياً للفلسطينيين وقضيتهم.. إسرائيل هدمت وشردت وقتلت أعداداً هائلة من الفلسطينيين وذراعها العسكرية أقوى من صواريخ القسام وغيرها، لكن محللين من داخلها اعتبروها قزماً صغيراً بدون أمريكا، وأن معاندة وغرور نتنياهو فسروهما بالضعف في التعامل مع قوة عظمى، وتجربة غزة بكل مآسيها، كشفت عن أن الحصار واختيار اللحظة لضرب المواقع وسياسة الخطف والسجون الطويلة ومعها الجدار العازل لم تمنع الفلسطينيين من استحداث حروب الأنفاق والصواريخ الصغيرة، والتي على بساطتها كشفت عن أن أمن إسرائيل لا تحميه القوة وحدها أمام شعب محاصر وممنوع عنه الغذاء والدواء، والأمن، وهي الصيغة التي اختارها صقور إسرائيل، فكان لابد من مراجعة الأساليب بتغييرها، وإلاّ فإن المواطن لا يخسر شيئاً إذا ما استمرت السياسة الإسرائيلية قائمة بدون فهم حقيقي لطبيعة الصراع، وأن حق العيش والأمن وحرية الحركة ليست شيئاً خاصاً للإسرائيلي وحده، أمام جوار قلق وطويل.. الفلسطيني يريد أن يعيش بسلام وتصويره بأنه إرهابي يريد تدمير إسرائيل نجح في وقت كان الإعلام المسيّس مرتهناً لها، لكن الإعلام الحديث غيّر هذه المفاهيم، وصارت الحقيقة تشاهد من واقع الأحداث، ولعل مكسب غزة أنها فجرت رأياً عالمياً جديداً، واستطاعت تحمل التبعات في سبيل فك الحصار ووقف العدوان وتغييرات أخرى سياسية أجبرت إسرائيل على القبول بها كخيار ظلت ترفضه رغم المساعي الدولية والعربية.. المشكل الفلسطيني أن اللحمة الداخلية بين السلطتين في غزة والضفة لا تزال قابلة للاهتزاز، ومع أن حماس لم تكن على وفاق مع مصر، إلا أنها أدركت أن هذا خطأ استراتيجي، ودبلوماسيتها هي التي نجحت في صياغة الاتفاق الأخير ما لم يحدث نقضه، ثم الرؤية الموضوعية في قياس من المهم للقضية وحماس تحديداً، يجب أن لا تحجبه رؤية غير واضحة، طالما المطلوب في البند الأول أن تكون شخصية الدولة هي الأهم حتى لو كان هناك خلافات على الفروع، وكل الأطراف عرفت من تجارب عديدة أن توزيع الأدوار بين الدول العربية وغيرها أضر بالفلسطينيين جميعاً.. فغزة دمرت وتريد إعادة بنائها، والضفة بدأت تضيق بسبب تمدد الاستيطان، والعرب غارقون في قضايا أصبحت تهدد أمن الجميع وتحولت الأولويات لمسائل مكافحة الإرهاب وعدم تفكك الدول، وهي مهمات طغت على ما يجري على أرض فلسطين رغم أنهم أصحاب المعاناة في لعنة التاريخ الذي وضعهم بين رصاص البارود، والتشريد والحصار.. درس غزة يمكن أن يكون مفيداً، فعظمته أن الشعب الفلسطيني قبل بالمواجهة مع قسوتها وضغوطها، وهي ثمرة تربية متأصلة بكل الأجيال، لكن من حق كل مواطن أن يعيش بسلام لأن الحرب بأساليب الحصار والتجويع ثم الغارات الجوية لا تبني استقراراً حتى لإسرائيل، وذلك أن العالم تعددت قضاياه ولم تصبح هموم المنطقة على جدول الأعمال الرئيسي، والجميع بما فيهم إسرائيل يفهمون ولذلك فمنطق السلام هو من يستوفي شروط الحياة العامة للجميع.