انتهى "أبو دينار" من شراء احتياجات المنزل من محل الأثاث ودفع مبلغاً كبيراً بعد أن همست أم العيال له "عساك على القوة"، ثم ذهبت تنتظر في موقف "الانتظار" بعد أن شعرت بالتعب الشديد لطول التجوال في المحل، في ذلك الوقت لاحظ "أبو دينار" أن محفظته قد فرغت من المال إلاّ من قليل وضعها بانكسار في جيبه، وحاول أن يتقدم للعربة ليجرها إلى السيارة، وفي لحظات قفز العامل إلى عربته وأمسك بالعربة وابتسم بعد أن هز رأسه، "قائلاً: "أنا أشيل".. شعر "أبو دينار" أن مسلسل "الدفع" لم ينته بعد.. ولكنه شعر بالحرج من أن يطلب من "العامل" أن يوقف العربة ويتركها له، فالمحل مزدحم و"الكاشير" ينظر؛ فشعر بالحرج فصمت وأنزل رأسه ثم تمتم للعامل "امشي.. عند سيارة"، نهضت أم العيال تمشي وهي تتحدث عن الأواني المنزلية الجميلة الزهرية التي لم تشترِها مراعاة للظرف المادي الذي يمرون فيه، فيما بقي "أبو دينار" ينظر للعربة التي كانت مزدحمة بالأكياس، وما أن وصل إلى السيارة حتى قفز عامل آخر كان يقف في الخارج يعمل في ذات المحل ليساعد زميله في وضع الأكياس في السيارة، و"أبو دينار" ينظر للمشهد في ذهول، وحينما استوعب المشهد قال للعامل الثاني "بس عامل واحد يكفي"؛ فابتسم العامل الأول بعد أن هز برأسه "بابا هذا واجد أغراض".. صمت "أبو دينار" وهو ينظر لأم العيال وهي تركب السيارة وتغلق الباب خلفها.. وبعد أن انتهيا من وضع الأكياس رفع "أبو دينار" يده وقال "شكراً"، ولكن العامل الأول سرعان ما استطرد "بابا بخشيش" أخرج "أبو دينار" المحفظة من جيبه وقدّم "عشرة ريالات" لهما.. نظر العامل بنظرة استعطاف إلى "أبو دينار" وهزّ برأسه معلقاً "بابا هذا مافيه يكفي، جيب حق أخو صديق، هذا واجد أغراض ثقيل".. أخرج "أبو دينار" المحفظة وناول العامل الآخر ذات المبلغ وغادر بعد أن اختتم تلك التكلفة المادية بالبخشيش. لم يكن "أبو دينار" رجلاً بخيلاً ولكن المعيشة الصعبة جعلت منه رجلاً يفكّر في الاقتصاد دون جدوى، إلاّ أنه أمام بعض المواقف يضطر أن يفتح محفظته على مصرعيها حتى وجد نفسه ملزماً بأن يقدّم المال لاحتياجاته الضرورية، ويقدّم المال لترفيه أسرته، ثم يقدّم المال لمجاملاته، ويقدّم المال أيضاً للبخشيش الذي أصبح يحتاح إلى ميزانية محددة، ذلك الحال لا يشغل "أبو دينار" بمفرده، بل إن الجميع أصبح يفكّر أن يقدم البخشيش قبل أن يدفع فاتورته في أي مكان، فهل ذلك يعني أن البخشيش تحول إلى ثقافة واجب؟، أم أنها تحمل وجاهة اجتماعية لا يستطيع البعض أن يتجاهلها؟، أم أنها تدخل ضمن الإحسان والصدقة، وذلك ما يجده البعض مبرراً؛ لأن يكثروا منها في كل مكان؟. البخشيش يكون واجباً إذا كان من يخدمك يؤدي ما هو مطلوب منك شخصياً ظاهرة متكررة ترى "أحلام عبدالمعطي" أن تقديم البخشيش أصبح ظاهرة منتشرة لدى الأفراد في المجتمع حتى وإن لم يجد الفرد مالاً ليقدمه كبخشيش فإنه يطلب من رفيقه الذي معه أن يقدمه بالنيابة عنه، حتى تمادى العامل وأصبح يرفض مبلغاً بسيطاً ويطلب مبلغ أكثر من دون خجل، على الرغم من أنه في الدول المتقدمة الأخرى لا يوجد انتشار لثقافة البخشيش لديهم في الوقت الذي قد يكون المرء وضعه الوظيفي بسيط، ويحاول أن يدخر ولكنه يقدم البخشيش؛ لأنه يخجل من عدم تقديمه، خاصة حينما يشاهد بأن هناك من قدّمه للعامل فيخجل أن لا يبادر حتى أصبح العامل يحصل على ضعف راتبه الشهري من خلال البخشيش، مشيرة إلى أن ذلك ليس بالخطأ ولكن الإشكالية حينما يتحول البخشيش إلى واجب وظاهرة متكرره، فالمواطن يدفع البخشيش في "السوبر ماركت"، والمقهى، والسوق، وفي المطعم حتى أصبح ذلك يحتاج إلى ميزانية بمفردها. استغلال الكرم وقالت "أزهار عبدالغني" إذا تم تقديم البخشيش كنوع من الصدقة والإحسان؛ فإن ذلك حالة صحية وحالة إنسانية جميلة، ولكن المشكلة حينما يُقدّم البخشيش من منطلق الإحراج أو الشعور بالواجب؛ فتلك هي المشكلة، مشيرة إلى استغلال الموظفين لذلك الكرم، متحدثه عن قصة بائع الخبز الذي دخلت المحل فطلبت رغيف خبز، وحينما قدّمت مبلغ الخبز تبقى مبلغ بسيط من المال، فقال لها العامل: آخذ الباقي بخشيش.. فشعرت بالحرج ووافقت، موضحة أنه على الرغم من أن المبلغ بسيطاً ولكن الموقف كان يدل على استغلال انتشار ظاهرة البخشيش لدى العمال حتى تمادى البعض. تكافل اجتماعي وترى "سوزان المشهدي" -كاتبة صحفية وأخصائية اجتماعية في مستشفى الأمل- أن حق المحل قد أخذ من خلال الفاتورة التي تم فيها دفع المبلغ من قبل الزبون، ولكن ما يحدث أن الكثير من أفراد المجتمع يعرف مدى ضعف رواتب الموظفين العاملين في ذلك المكان، مشيرة إلى أن هناك عرفاً اجتماعياً أن هذه المؤسسات الخدمية -التي يعمل فيها بعض الموظفين كالمطاعم أو الفنادق وغيرها- تخفّض الرواتب اعتماداً على معرفة الناس من أن هناك ما يسمى ب"البخشيش" من قبل الناس، وبالتالي من الممكن أن تدخل في دائرة القبول، ولكن شريطة أن يحدث ذلك بدون طلب، أو إلحاح. وقالت:"حينما يشعر الفرد بأن العامل يفرض عليه ذلك؛ فإنه لا يحب أن يقدمها، فالإلحاح هنا مفروض، ولكن حينما يشعر المرء بأن هذا الموظف أدى خدمة جيدة أو أن الف ثقافة البخشيش تحولت إلى واجب تجاه من يخدمك رد قضى وقتاً لطيفاً في مكان ما، وأن الخدمة قُدمت بشكل راقٍ؛ فإننا يمكن أن نقول شكراً بشكل عملي، وهي أن نقدم مايسمى بالبخشيش، وذلك لمن يستحقها"، موضحة أن ثقافة البخشيش ليست مقبولة في كل مكان؛ فهي غير مقبولة على سبيل المثال مع موظف الاستقبال في مستشفى، وليست مقبولة مع الطبيب، ولكنها مقبولة مع مصففة الشعر في صالون نسائي، فليس كل عمل خدمي يتناسب معه "البخشيش"، وليس كل عمل خدمي نحتاج فيه إلى هذا النوع من المجاملة، فهذا المال البسيط المقدم هو عبارة عن "شكراً" ولكنها بهذا الشكل، وقد تقال هذه الكلمة بدون أن تظهر بشكل البخشيش، وهذا يكفي، مدللة على ذلك أننا قد لا ندفع هذا المبلغ البسيط لمكان شعرنا بأنه لم يقدم خدمة جيدة، على الرغم من أن المبلغ بسيط جداً، ولن يضرّ صاحبه؛ فهي نوع من التكافل يزيد وينقص بحجم مدى نوع الخدمة المقدمة ومدى سعادة العميل. وأضافت أن ذلك يختلف في "السوبر ماركت" والأماكن التجارية أو التسوق الكبيرة؛ ففي كل دول العالم لا يتم تخصيص عامل لوضع الأكياس بداخل السيارة، بل إن الزبون هو من يتحمل ذلك بنفسه، فحينما يوفّر "السوبر ماركت" ذلك لتسريع الخدمة، فالواجب أن يقدم "البخشيش" قبل أن يطلب؛ لأن هذه خدمة، ففي دول العالم الأخرى حتى الأكياس يتم دفع قيمتها فليس هناك عامل يساعد على حمل الأكياس، فمن الطبيعي هنا أن يتم دفع مقابل ذلك بمبلغ بسيط، كذلك على مستوى المطارات ففي الدول الأخرى لا يوجد هناك من يحمل الحقائب عنك، بل على الفرد تحمّل ذلك بنفسه، وهنا يجب أن يُقدم للعامل المال مقابل تلك الخدمة، مبينة أن تقديم البخشيش يدخل ضمن مفهوم الصدقة والإحسان، وذلك بحسب النية؛ فهناك من يقدم المال المتبقي خجلا من الأصدقاء الموجودين وهنا قد لا تدخل ضمن الصدقة، فالصدقة يجب أن تحضر فيها النية، ولكن يوجد عرف ثقافي حتى في دول الخارج أن 5% من قيمة الفاتورة تدخل ضمن ثقافة "البخشيش" أو للخدمة؛ لذلك فهي اختيارية خاصة حينما يقدم العامل خدمة مميزة. وأشارت إلى قصة الفتاة التي تعمل في محل "كافيه" وقد التقت بسيدة تتناول قهوتها في ذاك المقهى، فقصّت حكايتها المؤلمة لتلك السيدة من منطلق التعارف والبوح، فحدثتها عن ظروفها الصعبة، وكيف أنها تعمل من أجل أسرتها، وفي الوقت نفسه تدرس؛ فشعرت بالتعاطف معها، ووضعت لها "بخشيش" ضعف ثمن فنجان القهوة تقديراً لكفاحها في الحياة؛ فهذا النوع من البخشيش يوجد فيه تقدير كبير وتكافل إنساني جميل. هل البخشيش صدقة؟ ويرى "د. محمد العلي" -عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالأحساء- أن الموظف إذا كان محتاجاً أو وضعه المادي ضعيفاً، فإن المعطي للمال يمكن له أن ينوي ما يقدمه "صدقة"، وإن اسماه البعض بالبخشيش، أما إذا كان ذلك الموظف وضعه الوظيفي جيد فلن يدخل المال المقدم في مفهوم الصدقة؛ لأنه لا صدقة على غني، مشيراً إلى أن هناك من يقدم بخشيشاً في مطعم، ويدخل ذلك المال في الصندوق، ثم يوزع على بقية الموظفين نهاية اليوم؛ فإن ذلك يدخل ضمن النية؛ بمعنى إذا قصد المعطي أن يكون هذا المال بنية تقديمه للموظفين الضعاف من الخدم؛ فإنها تكون بحسب النية، فإن نواها صدقة فهي صدقة للفقراء وذلك يجوز، وإن قسّم ذلك على الموظفين. وقال إن شيوع ظاهرة ما يسمى بالبخشيش ليس أمراً طيباً، بل الأولى أن تسمى صدقة حتى تذهب إلى مكانها الصحيح، أما تسميتها بالبخشيش، فإن ذلك مدعاة لسوء فهمها لدى الناس، مبيناً أن المعطي عليه أن يرفع الحرج عنه؛ فإذا لم يكن يملك المال لتقديمه للعامل فلا يفعل دون أن يشعر بالحرج، أما إن وجد المال ولو قليلاً فليعطي المال بنية الصدقة؛ لأن -الله سبحانه- يحاسب العبد بنيته؛ فنقدم بنية الصدقة لا بنية البخشيش. بخشيش عامل النظافة قد يتحول إلى صدقة إذا حضرت النية