عندما تشيخ الكتب، وتشيب صفحاتها البيضاء فتصفر، وتصبح ضيفاً ثقيلاً في البيت، حتى وإن كانت كائنات خرساء ووديعة، فبعد فض بكارة معلوماتها، تضيق بها رفوف تفيض بالأسطوانات المدمجة، في عالم يستقبل كل ما هو إلكتروني بابتسامة مستطيلة، بعدما غاضت فيه رومانطيقية ثقافة الورقة، ومات فيه احتكار المعلومة، وأصبحت الكتب الممنوعة ذكريات من زمن الفروسية، وغدت المعرفة ذات الطابع الأرستقراطي دنية القطاف، بفضل الإنترنت التي صرعت حقوق الملكية الفكرية، ففي هذه الحالة يكون لمثل هذه الكتب المشردة التي أفلتت من أنياب الأيام في أسواق مصر القديمة عزاءً، فهناك في القاهرة "دور مسنين" لكل الكتب التي تخلى عنها أصحابها، فاقةً وعوزاً، أو بسبب مرض الولوع بالكتب الجديدة أولاً بأول، أو لأن مالكها الذي كان يقتنيها مضغه الموت، فخلّف من بعده خلفٌ لا يراعون فضيلة توقير الكتب؛ لأنها في نظر بعضهم زينة للمباهاة الفكرية، قبل أن تكون وسيلة ذهنية لممارسة الحياة، ومهما كانت عراقة أصل ونسب المجلد الموشى بماء الذهب، أو نقاء دماء الموسوعة المنقوشة بالحروف اللاتينية، أو شرف أرومة الأطلس الذي يقبض الأرض كلها بين دفتيه، أو دائرة المعارف التي تجلس في خيلاء مثل ماركيزة من العصر الفيكتوري، ففي قانون سوق الكتب المستعملة، كل الكتب سواء، كل الكتب سلع، وكل السلع تخضع لشريعة العرض والطلب، وتباع بثمن بخس دراهم معدودة.. ولكل كتاب حكاية. "دورة حياة الكتاب" هناك عدة أسواق للكتب المستعملة في مصر، بدءاً من أعرق وأشهر أسواق الكتب في القاهرة "سور الأزبكية" في العتبة (وسط القاهرة) الذي يعتبر متحفاً لخردة الثقافة من الكتب والدوريات، مروراً ب "سوق الجمعة" حيث يمكنك شراء كل شيء بدءاً من مناديل المرحاض حتى محرك المكوك الفضائي، وهو يعتبر في واقع الأمر حزمة من عدة أسواق، اندمجوا في بعضهم بفعل الجاذبية، وهو شيخ أسواق القاهرة، فمنه خرج شعار " كل شيء للبيع"، وطبعاً كله مستعمل أو مسروق، وانتهاءً بأكشاك الكتب في "شارع النبي دانيال" بالأسكندرية، والتي تعرضت لبطش قوات الأمن في 20 شوال من العام الماضي، مما أثار زوبعة رملية من السخط في أوساط المثقفين، لاسيما فقراء المثقفين، حيث تعتبر هذه الأسواق منجماً للكتب بكل ما تحمله الكلمة من بريق، فالكتاب الذي يباع في المكتبات الخاصة، ودور النشر بخمسين جنيهاً (27 ريالاً) يباع في هذه الأسواق بعشرة جنيهات (5.5 ريالات) إن كان الكتاب جديداً، وإن كان قديماً فهو رهن تقدير البائع ومماكسة الشاري، لكنه في جميع الأحوال لا يزيد على ثلث ثمنه، وأحيانا ربعه، لكن كيف يصل الكتاب لهذا السعر؟.. هنا اختلف الفقهاء؛ فهناك عدة أطوار يمر بها الكتاب قبل أن يصل ليد الشاري في سوق الكتب المستعملة، "البداية تبدأ عند بائع الروبابيكيا" يقول محمود، 34 سنة بائع كتب مستعملة بجوار كلية الزراعة جامعة القاهرة "أن تاجر الروبابيكيا الذي يشتري الكتب بالكيلو - وليس بالكتاب - من البيوت، يقوم ببيعها لمخازن الكتب مثل ذلك المخزن الموجود في إمبابة (شمال محافظة الجيزة) ويقوم المخزن بفرز الكتب فيحتفظ بالكتب ذات الأهمية والكتب الأخرى مثل الكتب المدرسية وغيرها من الأوراق عديمة القيمة يحيلها إلى مصانع الورق حيث تفرم ويتم تصنيع ورق الدشت منها. وهنا يأتي دور بائع الكتب، فيفرز بدوره الكتب التي يراها ذات قيمة ويشتريها بثمن أقل كثيراً من اللا شيء، ثم يعرضها على الطوار مقابل أسعار مجانية، مثلما يفعل محمود نفسه، الذي يقول بوجه طلق، أنه يعمل في هذه المهنة حباً فيها منذ سبع سنين". «محسن» أحد البائعين في شوارع القاهرة "قسوة التكنولوجيا" في نظرة بانورامية ل"سور الأزبكية" حيث أكشاك الكتب المنضودة، ملتحمة ببعضها، ويستأجرها البائعون من حي الموسكي، وعددها لا يزيد على نيف وعشرين كشكاً، وحولها كثبان رملية من الكتب المستعملة، بدءاً من أحدث روايات الأدباء الشبان، أحمد عبداللطيف وأحمد مراد وسعود السنعوسي مروراً بعمالقة جيل منتصف القرن المنصرم، شوقي والعقاد وطه حسين وعبدالرحمن بدوي.. وهلم جراً، فهناك نصيب مفروض لكل كلاسيكيات الأدب العربي والغربي التي لم تعد تجذب الشبان المحاصرين باللغة الركيكة من زوايا الدنيا الأربعة، بعض الأكشاك متخصص في بيع كتب معينة، مثل قواميس اللغات والكتب الأجنبية، أو الكتب الدراسية الخارجية، وبعضها الآخر - وهو الأغلب - يسير بمبدأ وردة من كل بستان. كما أن هناك أكشاكاً تضع تسعيرة محددة مثل "أي رواية أجنبية ب3 جنيه" أو "أي كتاب ب2 جنيه" وهناك الكثير بجنيه فقط، وبعضها الآخر لا يضع مثل هذه العروض التي تثير غريزة الشراء، ليتمكن من مفاوضة المشتري حتى الرمق الأخير على طراز لعبة عض الأصابع، فرغم بخس الأثمان الذي تباع به الكتب، غير أنها كانت في السابق أبخس من ذلك؛ وذلك يعود لسببين سنترك لمحسن 29 سنة، الذي ورث بيع الكتب عن أبيه فرصة توضيحهما: "النت أجهز على سوق الكتب المستعملة بفضل كتب الpdf- قالها ملتاعاً-، فالشبان المثقفون صاروا يلجؤون إلى الكتب الإلكترونية المتاحة على النت توفيراً لسعر الكتاب، والسبب الثاني "كساد سوق الكتب بعد الثورة". هناك رأي آخر لأحد القراء الذين يجوبون السوق بحثاً عن غنيمة، هو رشدي البالغ من العمر 41 سنة، وهو محام ولديه مكتب محاماة، يعتبر رشدي أن أسعار الكتب كانت في الماضي أقل منها الآن، ولم يكن هناك مفاوضة؛ لأن البائعين في ذلك الوقت كانوا يرون أنهم يؤدون واجباً مقدساً في توفير العلم لطلابه، كانوا لا ينظرون للكتب باعتبارها سلعاً، وكانوا لا يحددون أي قيمة لها ويأخذون الثمن الذي يحدده المشتري، أما الجيل الجديد الذين ورثوا المهنة، عرفوا قيمة الكتاب وأسعاره المحمومة في المكتبات، لذلك فقد بدأوا يحددون أسعاراً ويفاوضون فيها. إن من خصائص "سور الأزبكية" المميزة أنك إذا ذهبت لبائع وطلبت منه كتاباً محدداً ولم يكن عنده، فهذا لا يعني أن الصفقة لن يكتب لها الوجود؛ فالبائع في مثل هذه الحالات يذرع السوق طولاً وعرضاً حتى يجد لك الكتاب، حتى ولو كان في أمعاء حوت، ثم يتفق معك على السعر، وقد يتفق معك مسبقاً إدخاراً لجهد لا طائل من ورائه. ثم يقوم بإرضاء زميله صاحب الكتاب الأصلي بنسبة بسيطة من الربح. محمود أحد البائعين بسور الأزبكية "مصادر الكتب الأولية" فيما يتعلق بالمصادر الأولية للحصول على الكتب، يقول عاطف، 33 سنة، وهو حاصل على دبلوم صناعي، ويبيع الكتب الأجنبية فقط منذ 15 عاماً: "نحصل على بعض الكتب عند تصفية المكتبات، ومن تجار على علاقة بدور النشر الكبيرة، أو عند وفاة أحد الأشخاص الذين يملكون مكتبات منزلية، ومن الأشخاص الذين يريدون شراء كتب جديدة". في الوقت الذي يحدد فيه أسامة غريب ذو الوجه المنقوش بالنمش والذي يعمل في بيع الكتب منذ 35 سنة، مورداً آخر للكتب وهو "المزادات، ففي المزادات نحصل على الكثير من الكتب دفعة واحدة" وهو أحد الذين يرون خلافا لمحسن أن سوق الكتب المستعملة لم يتأثر بالثورة. بينما الشاب سعيد، بائع الكتب في سوق الجمعة، يميط اللثام عن مصدر جديد وأسلوب غير تقليدي لجأ إليه بعض التجار في سوق بيع الكتب المستعملة، حيث يقومون بإعادة كتابة الكتب باهظة الثمن على الحاسوب، ثم يقومون بطباعتها (طباعة رديئة بالطبع) وتجليدها وبيعها بسعر مغرٍ في السوق في رفقة الكتب المستعملة. وعن أكثر الكتب مبيعاً، فأغلب آراء التجار تشير إلى أن الروايات الجديدة هي التي تلقى رواجاً في سوق الكتب المستعملة، لا سيما وأنها تمثل صفقة رابحة فهي تكون معروضة في سوق الكتب المستعملة بثمن بخس في نفس الوقت الذي تنزل فيه الأسواق في المكتبات الخاصة بأسعار مرتفعة. وبذلك فهي تعد ملاذاً لكل محدودي الدخل من المثقفين، ولمثل هذه الأسواق والأكشاك أفضال كثيرة على كثير من أدباء مصر، فبفضل مثل هذه الأماكن قرأ العقاد 60 ألف كتاب، وقرأ أنيس منصور ضعف العدد، مع فارق اتجاهات شبان هذا العصر في القراءة كماً وكيفاً عن الجيل القديم. هذا ويظل السباق الذي سيحسمه المستقبل بين بائعي الكتب المستعملة، الذين يعيشون من الورق الأصفر، والقراء الانتقائيون الذين لا يكادون يقاومون إغراءات الكتب الرقمية، هؤلاء يعرضون بضاعتهم، ويماكسون فيها، مبرزين كل مفاتنها مشفوعة بإغواء السعر الزهيد، على سُنة اليسارجية والجلابين في سوق الرقيق بباب اللوق (وسط القاهرة) منذ قرنين من الزمان، وأولئك القراء الذين مايزالون أسارى رومانطيقية ثقافة الورقة لحسن الحظ. وبين الاثنين تبقى الكتب المستعملة مثل الجُبْنة كلما طعنت في العمر، ازدادت طلاوة.